إبراهيم العلوش
ما الذي يجعل خطاب بشار الأسد الأخير يختفي من واجهة موقع وكالة الأنباء السورية “سانا”، ولا يظهر ضمن فيديوهاتها، هل غضب أحد السيدين اللذين يستأجران بشار الأسد ونظامه، من خطابه الأخير، أم أن أجهزة الأمن المشروخة بين روسيا وإيران لم تعجبها حكمه وفلسفته المتهالكة.
ولكن هذا الخطاب هو نفس خطابات أبيه، ويكاد أن يكون الذين هتفوا له، نفس الذين هتفوا لأبيه أو ورثوا هذه الهتافات عن آبائهم مثلما هو ورث منصة الخطاب عن أبيه.
كان الخطاب استعادة لمقولة الأبدية الأسدية، فالكلام نفس كلام الأب غامض وغير صريح، ويحلم بالسعادة السلطوية عبر الهتافات المتكررة منذ السبعينيات من القرن السابق.
جميل حسن، رئيس المخابرات الجوية، وأحد أعمدة القمع، والمطلوب لعدة جهات دولية، ذهب قبل أيام من إلقاء هذا الخطاب إلى قاعدة حميميم الروسية، وأبلغ المحتل الروسي، بأنه جاهز لتسليم نفسه إلى المحاكم الدولية والاعتراف بأنه هو من ارتكب جرائم النظام ضد السوريين، وهو من أصدر القرارات المخالفة للقانون الدولي، ضد المعتقلين وضد المدنيين العزل، مقابل أن يستمر الزخم الأبدي لعائلة الأسد في كرسي الحكم، وهي ليست المرة الأولى التي يصرح بها مثل هذا التصريح، من أجل التضحية بنفسه على مذبح الأسدية الأبدية. وكذلك سبق لعلي مملوك أن صرح بمثل هذا التصريح، ولعل آلاف الجلادين والمتورطين في هذه المقتلة السورية لا يزالون مؤمنين باستمرار عبوديتهم للأبدية الأسدية، ناسين بأن هذه الأبدية صارت مربوطة بالروس، ومربوطة بالإيرانيين أيضًا، بعدما كانت مربوطة بالإسرائيليين وحدهم.
جميل حسن أصيب بجلطة دماغية قبل الخطاب، وتم نقله إلى المربع الأمني التابع لحزب الله في بيروت من أجل معالجته، فالأبدية الأسدية وطوال نصف قرن من جبروتها، وقوتها، وازدهارها، لم تتمكن من بناء مشفى واحد يليق برجالات نظامها، فما بالكم بالمسالخ التي تدعى مشافي وطنية، والمخصصة مع غرف التحقيق للمواطنين السوريين؟
من الواضح أن بشار الأسد في هذا الخطاب قد تخلى عن خطابه النموذجي المتسم بالتطوير والتحديث والذي كان يعج بأمثلة السيارات القديمة والجديدة، والسباق الذي يجري بينها.. وما إلى ذلك من التحذلق الذي كان يذيقه لمستمعيه في جامعة الدول العربية، ولعل هذه الخطابات هي السبب بإسراع الجامعة العربية بوقف عضوية النظام فيها، لتأخذ فسحة راحة من هذه الخطابات الطفولية.
لقد عاد الابن إلى خطاب أبيه، وإلى هتافات رجال أبيه، وإلى مثاليات أبيه، ففي الأزمات والصعوبات يرجع الأبناء إلى نصائح آبائهم وأمهاتهم، وقد ارتد بشار الأسد في هذا الخطاب إلى حضن الأقوال التي لا معنى لها، والتي لا تقول شيئًا مهمًا مثل أقوال أبيه (القائد الخالد)، أما من حيث الواقع على الأرض، فالأمور تجري في مسارات مختلفة، فأزمة الغاز والكهرباء مثلًا، أهم استثمار كانت لحافظ الأسد في تعذيب الناس والتنكيل بهم بعد غرف التحقيق، وصالات التعذيب وعشوائية الأحكام الميدانية، وغير الميدانية، التي تزهق أرواح السوريين.
لم يرد الروس على جميل حسن، ولم يقدروا تضحيته بنفسه من أجل الأبدية الأسدية، وردوه خائبًا مما سبب له الجلطة الدماغية، فتضحية العبد من أجل سيده، صارت تثير القرف حتى عند المحتلين الأجانب الذين استقدمتهم الأبدية الأسدية وسلمتهم سوريا.
الجديد في هذا الخطاب هو هجومه على فئة الشبيحة وتحذيرهم من أن ينقسموا، أو أن يكونوا سببًا في تفكيك وحدة أجهزة القمع، فوسام الطير (وهو اسم مستعار) الذي كان خادمًا مخلصًا للأبدية الأسدية طوال سنوات الثورة، وكان يشيد بالبراميل، وبالتعذيب، وبالتشبيح، صار يطالب باعتباره شخصية عامة مع أعداد كبيرة من الشبيحة، الذين رفعتهم الحرب ضد السوريين، ولم تعد هذه الفئة راضية بالبقاء خلف الكواليس، وفي غرف التعذيب، وفي المواقع الإلكترونية التي تجمّل الموت، والنهب، والسلب، دون أن تشارك بشكل فعال في جني الثمار. فموقع “دمشق الآن” الذي أشار إليه بشار الأسد وكاد أن يسميه، هو موقع الشبيح وسام الطير، المختفي لدى أجهزة المخابرات منذ عدة أشهر، بعد نشره تقريرًا عن الفساد وأزمة الغاز.
فيديو خطاب بشار الأسد لم يعد موجودًا في واجهة موقع “سانا”، ووسام الطير اختفى قبله بعدة أشهر، وجميل حسن اختفى في أحد مشافي حزب الله، فهل ترد علينا قناة روسيا اليوم وتخبرنا عن السبب؟ أم يرد علينا قاسم سليماني ويخبرنا عن السبب؟ خاصة وأن نتنياهو مشغول بالحملة الانتخابية وهو ليس بوارد تفسير تصرفات ابن حافظ الأسد وخطاباته المخصصة لاستهلاك الشبيحة والمخبرين.