الجانب المنسي لدى مزودي الأخبار
منصور العمري
لا تقتصر الأخطار والصعوبات التي يتعرض لها مزودو الأخبار على الانتهاكات المتنوعة المرتبطة بالحالة السياسية أو القمعية الدائمة أو المؤقتة لمراسلي الحروب بل تتعداه إلى طبيعة القصص التي يغطيها، وتتدرّج هذه المعاناة من التحرش وتطبيع الرقابة الذاتية إلى الاستهداف المباشر بالقتل والتغييب وغيره، وتمتد أحيانًا لتصبغ حياته اليومية، وربما يسيطر على روحه شيء من الألم الدائم.
يتعرض الصحفيون والناشطون ممن يغطون أخبار المآسي من نزاعات وكوارث وغيرها على اختلاف أشكالها وعمقها إلى ضخ من الأخبار والصور والمرئيات العنيفة والمرتبطة بالجرائم والانتهاكات وغيرها، كما تُحتّم عليهم مهنيّتهم التحول إلى مُستوعِبين شرهين لتفاصيل الحدث ورواياته، فيحمل عملهم أحيانًا جرعة مشابهة من الصدمات أو الضغوط كتلك التي يحملها من يعمل في إسعاف الجرحى مثلًا أو حتى المقاتلين في الحروب وربما حتى الضحايا أنفسهم، ما يفاقم من تركيز الصدمة التي قد تلّم بهم إن كانوا متخصصين في هذه الأنواع من التغطية الصحفية.
إن تماهى الصحفي مع هذه الصدمات لتصبح جزءًا من حياته وتعتمل في داخله بإدراكه أو من دون ذلك، ستؤدي إلى نتائج سلبية على أقل تقدير، فربما تنعكس على علاقته بالمؤسسة التي يعمل بها أو على حياته الزوجية وعلاقاته مع الآخرين، وقد تتطور إلى مظاهر أخرى ربما تكون أكثر خطرًا على الصحفي.
رامي السيد، مواطن صحفي ومصور يمارس نشاطه الصحفي في جنوب دمشق التي تعتبر من أكثر مناطق العالم بؤسًا وخطرًا على الصحفيين:
يقول رامي:
“مع بداية تغطيتي للأحداث المأساوية كنت أتأثر كثيرًا بما أراه، فحين كنت أغطي جرائم النظام السوري التي حفلت بصور القتلى والجرحى كنت أشعر بالاضطراب والرعب من المشهد ولكن ما كان يدفعني إلى الاستمرار هو رغبتي في توثيق هذه الجرائم وأملي في قرب توقفها، ولكن مع استمرار الأحداث والمشاهد المؤلمة بدأ الجمود يتسلل إلى مشاعري، وأصحبتُ جزءًا من المشهد الدموي، فكثيرًا ما كنت أساعد في إسعاف الناس في أثناء وجودي في المشفى لتغطية الأحداث فتحولت إلى مصور ومسعف، وعشعشت هذه المشاهد في ذاكرتي، وخاصة عندما أقوم بمعاينة مقاطع الفيديو وأعالجها بما يتناسب والمواثيق الصحفية، بل أحيانًا لا أستطيع النظر إلى الصور التي التقطتها بنفسي لشدة جرعة الألم والدم الذي تحمله، ولكن أستمر في عملي كي أوصل هذه الحقائق إلى العالم”.
يتحدث رامي عن نوع آخر من المعاناة وهو توجيه اللوم له من قبل الأهالي أحيانًا بسبب قسوة المشاهد التي يوثقها بكاميرته، كمقطع الفيديو الذي يصور طفلين وهما يحاولان التقاط فتات الخبز من الأرض:
“استاء بعض الناس مني، لماذا أصور الطفلين وهما يأكلان من الأرض ودون أن أقدم لهما ما يأكلان، لم يدرِ الناس أني كنت جائعًا مثلهما وأخضع للحصار ذاته، وأخذت بالبكاء لا أدري ما أقول. في كثير من الأحيان أنقل معاناة أشخاص رغم أن معاناتي ربما أكبر، ولكن أشعر أن مسؤوليتي هي إيصال معاناة الناس لا معاناتي، فبعد سنوات من تغطيتي للحرب والمعاناة في المنطقة لا أملك كاميرا احترافية حتى الآن”.
يضيف رامي:
“بسبب كثرة الصور الدموية والمؤلمة التي أغطيها بشكل شبه يومي ولشدتها، أشعر أن ذاكرتي باتت مؤقتة وأصبحت هذه المشاهد شبه عادية، فالضغط اليومي لعملي وظروف المعيشة القاسية تحجب عن ذاكرتي الخضوع لألم الصور”.
يتحدث رامي أيضًا عن انشغال آخر يزيد من معاناته:
“نحن كمواطنين صحفيين نقوم بعمل أكبر من طاقتنا وفي الوقت ذاته لا نتلقى جزءًا ولو بسيطًا مما نستحق، ويتم استغلالنا من قبل أغلب وسائل الإعلام، ولكن ما يدفعنا إلى الاستمرار في عملنا ليس المقابل له ولكن قضيتنا العادلة التي تفرض علينا إيصال الحقيقة إلى العالم، واستطعنا أن نقوم بهذه المهمة بشكل يوازي عمل الصحفيين المحترفين.. أنام كل يوم وكلي أمل أن أستيقظ وقد انتهت هذه المعاناة”.
تحدّث الإعلامي مصطفى بالي أيضًا عن تجربته الشخصية ومعاناته الناتجة عن طبيعة عمله الصحفي:
“قمت بتغطية الأحداث في كوباني شمالي سوريا لفترة طويلة، وكانت تغطيتي الإعلامية بمجملها لوقائع الحرب وأحداثها، بما فيها من صور الجثث والدم والدمار.. أصبحت مشاعري حيادية، وانعكس ذلك على حياتي الاجتماعية والعائلية فأنا أقضي أغلب وقتي بعيدًا عن زوجتي وأطفالي، وعندما اجتمعت بهم مؤخرًا لم أستطع اللعب معهم ومحادثتهم أو حتى أن أضحك معهم، تغمرني تساؤلات عن عوائل الجثث أيضًا، هل أهاليهم يعرفون أن جثة ابنهم مرمية في شارع ما، هل لديه عائلة، وهل لديه محبون، وهل سيبكي أحد عليه لو عرف برحيله، هذه التساؤلات تسبب لي الشرود، وتشعر زوجتي بالقلق تجاهي وتجهد في محاولة مساعدتي للعودة إلى حالتي الطبيعية ولكن دون جدوى، وهذا ما يزيد من ألمي، ولكن ما مررت به في أثناء عملي الصحفي في كوباني قاسٍ لدرجة الجنون، يسألني أطفالي بذكائهم الفطري: هل أنت منزعج من رؤيتنا؟ فهم يتوقعون رؤية أبيهم الذي اعتادوا عليه من قبل، فقد كنت شخصًا مرحًا.
كانت عيناي تدمع أحيانًا لرؤية جثث مقاتلي داعش فقد كانوا أطفالًا، وتفزعني هذه الفكرة، كيف سأحمي أطفالي من التورط في حروب في المستقبل”.
يضيف مصطفى في محاولته التعامل مع الصدمات الناتجة عن طبيعة عمله الصحفي:
“أحاول أن أشغل نفسي بأمور بعيدة عن هذه الصور التي تؤرقني كأن أقرأ مثلًا، وأخرج أحيانًا في الليل هائمًا، فلا أرغب بالبقاء في المنزل أو الحديث مع الناس، شيء ما يدفعني إلى الابتعاد وحيدًا، وقد أختلي بنفسي ويغلبني البكاء دون سبب مباشر.
أسوأ ما أدركه الآن هو أنني لم أعد أشعر بالحزن أو الغضب، رغم أني أحاول أن أستردّ بعضًا من مشاعري ولكن بلا جدوى”.
يوجه مصطفى نداء من عمق تجربته إلى زملائه الصحفيين:
“نصيحتي لكل صحفي في مناطق الحرب أن يجعل الصحافة مهنة إنهاء الحروب لا تأجيجها، أن يكون إنسانًا قبل أن يكون صحفيًا، وينظر إلى من يعتبره عدوًا كإنسان بغض النظر عن أي موقف أو اتجاه”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :