في زحمة المخاوف الكثيرة التي تقض مضجع المواطن السوري اليوم، يعتبر فقدان الهوية الشخصية أو وثيقة تأجيل الجيش (الخدمة العسكرية) أو ما شابه ذلك من الأوراق الرسمية من أكثر المخاوف رعبًا، وتتفرد به سوريا كأكثر دولة يعتبر فيها ضياع الوثائق كارثة وليس حدثًا سيئًا، فوبيا وليس خوفًا اعتياديًا.
فالسير في دمشق خصوصًا، وأي منطقة يسيطر عليها الأسد عمومًا، دون الهوية الشخصية وأوراق تأجيل الجيش مثلًا، يعتبر انتحارًا حقيقيًا وجرمًا قلّ أن ينجو صاحبه، وفي حين أنه في أي بلد يحترم مواطنيه في العالم لا تستغرق إجراءات إخراج بديل عن هذه الأوراق الرسمية إن فُقدت سوى بعض الوقت والقليل من المال، لتعطيل البطاقة التالفة مثلًا عبر الأجهزة التقنية وإخراج بديل عنها حالًا، فهي في سوريا تصنف من أشق الأعمال وأكثرها شقاءً، وإذا فقد أحدهم بطاقته فالحصول على بديل لها يعتبر معركة حقيقية غير مضمونة النتائج.
إخراج بديل عن الهوية في دمشق يحتاج الذهاب إلى قصر العدل في الحميدية، ويتطلب إحالة من الوزير، وشهودًا، وضبط شرطة، وتواقيع كل من يلبس حذاءً عسكريًا، ومرورًا على مخافر البلد ومقاسم الشرطة، وتقبيل أياد هنا ورشاوٍ هناك، وأيامًا وأسابيع وشهورًا أحيانًا، مما يجعل السوري يندم على الساعة التي أضاع فيها هويته.
ورغم أن القانون هو الراعي الرسمي للمعاناة التي سيكون على المرء خوضها لو أراد مراجعة دوائر الدولة، إلا أن الموظفين ورؤساء الأقسام يتحملون وزرًا كبيرًا منها، فعبارة “ارجع بكرة” التي يقولها الموظف بدم بارد لمواطن متحرق للحصول على ختم أو توقيع، أو عبارة “شغلك مو عندي” رغم أنه الموظف المسؤول، والوحيد أحيانًا، تجعل الكثيرين يقولون: “الشعب هو المسؤول عن الفساد قبل الأنظمة!” و “بعمرنا ما منصير”.
فعقيد محكمة المزة الغربية مثلًا يقول إنه يعاني الأمَرَّين مع الموظفين، ويحاول بكل جهده تطبيق النظام ولكن قلما ينجح، ويضيف: “الموظفون هم السبب الرئيسي للفوضى والتسويف، لأنهم يعسرون سير المعاملات ويطلقون الأوامر كأنهم رؤساء دول”.
وكذلك يرى أبو رائد (رئيس قسم في محكمة المزة) أن الموظفين مسؤولون عن جزء كبير من البيروقراطية، لكنه يقول “الموظفون يعيقون السير لكنهم ضحايا هذه المنظومة غير العادلة، فالموظف الذي يعمل بلا توقف طيلة فترة دوامه في ظروف الحر والبرد نهارًا، ثم لا يتقاضى ما يسد رمق أطفاله ليلًا .. سيتبلد، ويصب غضبه على المراجعين ويعيق عملهم”.
أما أبو نضال، وهو موظف في دائرة القلم في محكمة المزة أيضًا، فيقول “جميع من بدأ العمل كموظف نشيط ومخلص لم يكمل خمس أشهر حتى تبلّد”، ويتساءل “هلأ معقول كل اللي بيتوظفوا عاطلين!”.
من جهتهم سارية وفراس، وهما أيضًا موظفان، يريان أنه “إن عملت منيح ولا قبيح ما حدا عاجبو، فاعميل اللي بريحك”، بينما يقول أبو أحمد، وهو موظف معروف بتفانيه وإخلاصه، “نحن في الوزارات والدوائر الحكومية بين سندان الرؤساء ومطرقة الشعب، الأول بدو نكون جهاز كمبيوتر ما بيغلط، والتاني بدو نكون أخطبوط بميت ذراع”، ويضيف “لكنني أعمل بإخلاص من أجل الناس، أنا بخدم كل واحد بيجي لهون كأنو ابني وهيك بنام مرتاح”.
ومع ازدياد الحاجة إلى الدوائر الرسمية في هذه المرحلة المضطربة من تاريخ البلاد، يزداد الضغط عليها ويزداد الأمر صعوبة وشقاء على كل من المواطن والموظفين.
ورغم أن معاناة الدوائر الحكومية في سوريا ليست أمرًا جديدًا وإنما قديمًا بعمر استلام حزب البعث لزمام السلطة في البلاد، ورغم أن النقاد تكلموا في الموضوع كثيرًا وكتبوا عنه طويلًا، وتناوله الإعلام في مواضيعه والدراما في موادها، إلا أن من يذهب إلى دوائر الدولة أو يسمع عن ما يحصل فيها حقيقة، يدرك يقينًا أن كل ما كُتب لا يرقى إلى غباوة وبشاعة ما يحصل، وأن الدراما التي تبالغ عادة لجعل المشهد يبدو مضحكًا أو مؤثرًا، لم تصف إلا جزءًا بسيطًا من الحقيقة، وأن النقد الدرامي في أكثر مشاهده سخرية وجرأة لم يعدُ عن أن يكون محاولة لتحسين الواقع وتجميله.
وفي هذا يقول أبو أحمد، الذي قضى معظم شيخوخته عامل نظافة في محكمة المزة، “الواقع مسلسل أكثر من التلفزيون ولو كانت الأمور متل (يوميات مدير عام) و(بقعة ضوء) كنا بألف نعمة”.