ما إن حطت الحرب أثقالها، وانتشر الباعة على الطرقات، حتى امتلأت شوارع البوسنة والهرسك ببائعين متجولين على الأرصفة، يعرضون منحوتات على قطع نحاسية صغيرة؛ ستفاجئك الملاحظة والتدقيق بأن ما تراه ليس إلا بعضًا من مخلفات الحرب التي طحنت البلاد سنينًا عدة. هي ذاتها الرصاصة التي قتلت أحدهم ذات يوم؛ تستقر بين يديك كقطعة فنية تشهد على حقد بعض الأرواح؛ وجمال أرواح أخرى.
أكرم أبو الفوز، من مدينة دوما في الغوطة الشرقية لدمشق، هو أحد أصحاب تلك الأرواح الجميلة، ممن رأوا في الموت المحيط بهم منظورًا آخر، وحاولوا تغيير لونه الأسود القاتم؛ بكثير من الفن والصبر والإرادة، لا لجعل الموت أجمل، “بل لأزّين الحياة” يقول أكرم.
الرسم هواية قديمة عند أكرم، البالغ من العمر 36 عامًا، منذ أن مسكت يداه قلم؛ إذ لم يمنعه عدم إتمامه الدراسة الإعدادية من ممارسة هوايته التي يحب، بل لعل هذا ما أتاح له وقتًا كافيًا ليعيش بين أقلام التلوين وريشه، فامتهن الرسم على الزجاجيات والشرقيات فترة من حياته؛ إضافة إلى الرسم بالفحم والرصاص، ليشكّل هذا الماضي الفني برمّته نواة ﻹبداع مختلف في الحرب.
بدأت فكرة “الرسم على الموت”، كما يحلو لأكرم أن يسميها، عند اقتنائه ﻷول قذيفة هاون “كنت أنوي أن أجمع فوارغ الرصاصات والقذائف لتشكيل معرض للحرب في منزلي عقب انتهاء الثورة، لكن بعدي وانقطاعي عن الرسم أشعراني بحاجتي له، ومعاودة الحياة التي أحب ولو قليلا”، من هنا ابتدأ مشوار فنان الغوطة، بالرسم على أول قذيفة “كنت أرى فيها رسائل معبرة لا تحتاج للكلام”.
الألوان الزيتية، عصارات التوليب الملونة، ومخلفات الحرب؛ هو كل ما يحتاجه أكرم لإبداع تحف جديدة، بعين خبيرة تنظر لمحيطها بطريقة مختلفة، لكن الحصار يحيط عمله بالصعوبات “هناك شحّ كبير بمادة التوليب، وهي أكثر ما أعتمده في أعمالي، حتى تكاد تُفتقد نهائيًا، علاوة على ارتفاع سعرها أضعافًا كثيرة، إن وجدت” يقول أكرم.
وكما كلّ الفنانين، لكلّ لوحة عند فنان الغوطة وقتها الخاص تبعًا لحجمها وما تحتاجه من جهد ونوعية الرسم الخاصة بها، “فصاروخ الطيارة يحتاج مني ما بين 20-25 يومًا على وجه التقريب، بينما أرسم على القذيفة بيومين إلى أربعة أيام”.
عائلة أكرم كانت أول المعجبين بأعماله، والمشجعين له على نشرها وعرضها؛ “وبما أني أعيش بمحيط تعايش مع الصواريخ والقذائف لا أجد استهجانًا من قبل عائلتي لجمعي مخلّفات الحرب، فقد أضحت جزءًا من حياتنا اليومية الموجودة حولنا في كل مكان”، ويضيف ضاحكًا “يعني إذا رفعت المخدة الصبح بلاقي رصاصتين تحتها”.
هذه الروح المرحة والقدرة على التعايش مع أسوأ الظروف وتحويل الموت إلى فنّ جميل انتقلت من “أبو الفوز” إلى أطفاله الثلاثة “بمشاهدتهم للألوان والزخارف على آلات القتل لاحظت أن الخوف قُتل في قلوب أطفالي، حتى باتوا يعتقدون أن الطيارات تلقيها علينا جميلة بهذا الشكل!”.
وكما كل الفنانين، يسعى أكرم لتنظيم معرض يضم جميع أعماله “منذ ستة أشهر أحاول القيام بمعرض يعود ريعه ﻷطفال الغوطة المحاصرين، وقد تم توقيع عقد المعرض مع منظمة عالمية والحمد لله، سيتم الإفصاح عن الاسم والمكان والزمان لاحقًا”.
يتم تصوير أعمال “أبو الفوز” من قبل مصور رويترز، بسام الحكيم، ليتم نشرها لاحقًا على صفحته الخاصة بأعماله “الرسم على الموت”، حيث يصار تداولها على مستويات عديدة وصلت لمنظمات ومتاحف عالمية “عُرض علي بيع الكثير من أعمالي لجهات عالمية، منها متحف عالمي ببريطانيا وأشخاص عدة في بلدان عربية مجاورة، لكن الحصار يحبسني أنا وأعمالي هنا، ولا يتيح لي التفكير بعروض كهذه”.
ويرى أكرم أن الفن مرتبط بالثورة ارتباط المجاهد في خندقه، فهو برأيه يعبر -في ظل الحروب والثورات- عن رسالة شعب كامل لا رسالة خاصة بإنسان واحد، “فكثيرًا ما ساهم الفن في إيصال صوت الناس وتغيير مفهوم شعوب كاملة عن ثورتنا وشعبنا وبلدنا من خلال أغنية أو تصميم أو لوحة أو منحوتة”.
يختم أكرم حواره مع عنب بلدي بقوله “من وجهة نظري فإن ولادة الفن من رحم الحرب ليست كولادته على ضفاف نهر وسماء زرقاء وطيور تزقزق، فبمجرد الوقوف على أطلال حيّ مدمر أو النظر للخوف في عيون أطفالنا أو نظرة العجز عند أب لا يؤمّن قوت عائلته.. من هنا تولد فنون جديدة لا علم ﻷحد -سوى الله تعالى- بها”.