فيكتوريوس بيان شمس
تقول الطُرفة إن سكان الأسكيمو كانوا يؤمنون بأن المذنِب يُعذّب بعد الموت بدرجات حرارة أدنى من حرارة الأسكيمو العادية (متوسط درجات الحرارة -35)، وما إن وصل المبشرون الكاثوليك إليهم، وأفهموهم أن العذاب بعد الموت يكون في الجحيم، أي في النار، حتى آمنوا بالكاثوليكية جميعًا.
هزم الثلج في العام 1812 واحدًا من أعتى جيوش أوروبا، عندما قرّر نابليون بونابارت الذي حاول اجتياح سانت بطرسبورغ بـ 700 ألف جندي، كانوا في طريقهم إلى روسيا عندما اجتاحوا في طريقهم سويسرا وبولونيا وعدّة دول بلقانية أخرى، ليعود منهم بعد حصار استمر لأشهر حوالي 30 ألفًا فقط بعد أن قضى البقية في موجات الصقيع والثلج.
لعب الثلج أيضًا دورًا جوهريًا في هزيمة الجيش الألماني النازي في شتاء العام 1941 عندما بدأت هذه القوات تتقهقر في ذات المدينة (سانت بطرسبورغ) التي لم يستطع جيش بونابارت الصمود فيها من قبل، فكان الثلج حليفًا وفيًا للروس ونصيرًا لهم، حاسمًا كبريات حروبهم.
والثلج الذي هزم جيوشًا جرّارة في عهود مضت، بات يأتي منذ سنوات بسبب تغيّرات مناخية متطرّفة في حرارتها صيفًا وبرودتها شتاء، ليغمر مخيمات البؤس والشتات التي أوى إليها اللاجئون السوريون الذين حاولوا حماية أنفسهم وعائلاتهم من جحيم القصف الذي دمّر مدنهم وقراهم.
منذ سنوات تتكرّر مشاهد الألم ذاتها، مخيمات تغمرها الثلوج، فتغرق وتنهار شيئًا فشيئًا على مرأى العالم كلّه، ثم تتوالى أسماء الضحايا وصورهم، وهم في غالبيتهم من الأطفال. هذا بالإضافة إلى المشاكل التي تعانيها بعض مخيمات اللاجئين صيفًا، كالقصف المقصود والمتكرّر على بعض المخيمات داخل الأراضي السورية من قبل قوات النظام السوري وحلفائه، أو كما هو الحال في لبنان، إذ يتعرّضون لعنصرية وإذلال ومضايقات لا تُحتمل، ولهجمات ميليشياوية تعتدي عليهم، فتهين كراماتهم دون تمييز بين صغير وكبير أو بين امرأة ورجل، فتحرق خيامهم وتشرّدهم من جديد، وهجمات أمنية تتعامل معهم كعدو أو كخطر محتمل، وتحميلهم مسؤولية تردّي الأوضاع الاقتصادية والأمنية، ناهيك عن ترحيل قسري للبعض في مخالفة واضحة لكل المعايير والأعراف الإنسانية والأخلاقية والدولية. وفي هذا تمييز واضح بين نظام وشعبه، إذ إنه في حين يستميت النظام الرسمي اللبناني في محاولاته لإعادة النظام السوري إلى المؤسسات العربية والإقليمية والدولية التي جُمّدت عضويته فيها، والتي كان آخرها الاجتماع التحضيري للقمة العربية التنموية الإقتصادية التي عقدت في بيروت في 20 من كانون الثاني 2019، لم يُسمع أبدًا أن مسؤولا حكوميًا سوريًا زار مخيمًا، أو ناشد سلطات بلد ما، من الدول التي تتلقى المليارات لاستضافتها هؤلاء اللاجئين، لتقديم العون والمساعدة للمخيمات التي يقطنها مواطنوه، لا بل على العكس، نصح بعض مسؤولي النظام الأمنيين المواطنين السوريين علنًا وعلى شاشات التلفزة بعدم العودة إلى بلادهم كي لا يكونوا عرضة للملاحقة.
في حين اختفت المعارضة من المشهد، باستثناء بعض البكائيات والتصريحات التلفزيونية الاستعراضية لذر الرماد في العيون، وهي التي لا يُعرف مصير المليارات التي قبضتها طوال الثماني سنوات الماضية، بينما تنتظر المفاوضات في سوتشي وجنيف وغيرها، في وقت لم يبق لها ما تفاوض عليه، سوى القبول بأدوار ديكورية- كاريكاتورية بعد أن بدأ النظام باستعادة السيطرة على المناطق واحدة تلو الأخرى.
في الداخل، أي في المناطق التي يسيطر عليها النظام، قد لا تختلف الصورة كثيرًا، فانقطاع التيار الكهربائي، وندرة المحروقات وارتفاع أسعارها بشكل جنوني، والمترافقة بانخفاض سعر الليرة بشكل غير مسبوق أمام العملات الأجنبية، أثقلت كاهل الناس، وأصبح الحصول على التدفئة واحدة من الكماليات والرفاهيات التي لا يقوى عليها كثيرون، رغم أن الأسعار العالمية للمحروقات ولسنوات مضت كانت في انخفاض ملحوظ، إضافة إلى أن داعمي النظام، كروسيا وإيران، أو حتى العراق، هي دول نفطية قادرة على تزويد النظام باحتياجاته في هذا المجال، تمامًا كما تزوده بالأسلحة والميليشيات، إلا أن المشكلة في مكان آخر، المشكلة في تجارة الحرب، حيث يسيطر اقتصاد آخر مختلف، لا رحمة فيه، فارضًا نفسه، وقالبًا كل المقاييس الاقتصادية والاجتماعية التي لا تتعافى منها عادة البنى الاجتماعية المنكوبة بالحروب، حتى بعد عقود من انتهائها. وهو النهج الذي استسهل النظام اعتماده والركون إليه، ليُظهر محدثي نعمة جددًا من أصحاب المليارات المقرّبين منه.
ستتكرّر المأساة ومشاهد البؤس في مخيمات اللاجئين كل عام، ولا يبدو أن هناك حلًا يلوح في الأفق. ففي ظل انعدام ثقة الشعب السوري بالنظام الحاكم، وهو ما يمنع اللاجئين من العودة إلى مناطقهم للملمة ركام منازلهم، هنالك عمل حثيث على إعادة تأهيله، وهو ما ظهر في عودة بعض الزيارات الرسمية، وإعادة افتتاح بعض السفارات التي كانت مغلقة في دمشق منذ بدء الثورة، بينما لدى اللاجئين قناعة، بأن العودة غير ممكنة في ظل استمرار هذا النظام.
إذا كانت الهزيمة نتيجة طبيعية للصراع بين طرفين، فإن الثلوج والأمطار التي تغمر مخيمات اللاجئين كل عام، هي حكم بالإعدام عليهم جميعًا.