عادت الغوطة الشرقية إلى واجهة الأحداث السورية مجددًا، لتحتل أخبارها مساحات واسعةٍ بين زحمة الأخبار العاجلة والعناوين العريضة في ساحات إعلامية عدّة (رغم غيابها في الوقت عينه عن محطات عربية مهمة)، إذ تعتبر الهجمة التي شنّها النظام منذ مطلع الأسبوع الفائت، الأعنف خلال سنوات الثورة الأربع، ما أسفر عن زيادة عدد الضحايا من المدنيين منذ مطلع شباط الحالي، عن 180 شهيدًا، بينما ناهز عدد الجرحى الألف، حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
يمنة «تتسلى»
تتحدث الأرقام والإحصائيات الواردة من الغوطة عن عنف متصاعد، شديد الوطأة، لكنها لا تقدر على وصف حجم المأساة المتفاقمة كما تقول الآنسة لمى «الطائرات لا تهدأ ليل نهار، محاصرة أنا في دوما منذ سنتين لكننا لم نعش أيامًا بهذا الرعب سابقًا، لم يعد يمكن وصف ما يجري».
يمنة، طفلة في التاسعة من عمرها وهي خلافًا لكل أطفال العالم وكما كل أطفال الغوطة الشرقية تجد في المدرسة «المتنفّس» الوحيد من البيت، وفي صداقات المدرسة العبق الأخير المتبقّي من رائحة الحياة الجميلة، بصوتها الرقيق الراجف تأثرًا تخبرنا «رفيقتي تصاوبت وبيتها انقصف، تكسر كل شي ببيتنا نحنا كمان ﻷنو نزلت قذيفة قريبة، اشتقت لرفقاتي وللمدرسة، المدارس كلها تسكرت أو انقصفت».
وتكشف يمنة أنها تتسلى بإحصاء عدد الغارات أثناء القصف «أنا عديتن 36 غارة بيوم واحد، ما عدا القذائف، كان يوم صعب كتير قعدنا مع بعض كلنا الكبار والأطفال.. تيتة صارت تقول يارب يحمينا بحسنة الأطفال ونحنا صرنا ندعي متلها».
«الناس بيفكرو الصغار ما بيفهمو» تقول يمنة، لكنها تنقض ذلك فابنة خالها رضيعة عمرها أشهر لكنها لا تتوقف عن البكاء طالما كان القصف مستمرًا.
فلك: «نموت جميعًا»
رعب الحرب يكسب الأطفال طباعًا أخرى، فلك طفلة في الحادية عشرة من عمرها، أصوات الطائرات والقذائف سلبتها حاجتها الأساسية من الطمأنينة والأمان، لكنها فاجئت عائلتها بشجاعة تمردها حينما أخبرتهم بقوّة «ماما بدها ياني انزل عالقبو مع اخواتي طول النهار، أنا ما بدي عيش وأهلي يموتو، أنا ما بكون مبسوطة إذا بقيت عايشة بدون ماما، بيت جيراننا نزلو عالقبو وتهدمت البناية عليهن واختنقو…».
الوضع الطبي في ظل الحصار
تدهور الوضع الطبي في الغوطة الشرقية وتحديدًا في مدينة دوما، دفع منظمة أطباء بلا حدود إلى التحذير من الوضع الصحي المتردي، في بيان نشرته على الإنترنت.
«في الأسابيع الأخيرة تجاوز عدد المرضى الذين يتلقون العلاج في المسشفيات التي ندعمها السقف المسموح به، وازداد عدد طلبات الحصول على التجهيزات الطبية بشكل كبير» حسبما أفاد الطبيب بارت يانسنز مدير عمليات منظمة أطباء بلا حدود لوكالة الأنباء الفرنسية.
غارات النظام وصواريخ أرض-أرض التي دكّت الغوطة ليست العقوبة الوحيدة التي اختارها حاكم دمشق للحاضنة الشعبية الأبرز للثورة ولمقاتلي الحرّ المحيطين بالعاصمة، إذ يضرب حصار خانق ناهز عمره السنتين أطراف المدينة، ويحكم عليها شدّ الوثاق، إلا أن الألسنة ملّت ذكره، فكثير من المدنيين لم يختر المكوث تحت القصف، والحصار هنا شريك في القتل إذ لا ملاذ للضحية ولا خيار لها سوى استقبال الموت.
والحصار شريك أيضًا بما يسببه من وضع طبي غاية في السوء، لذا فلا إمكانية أخرى لإسعاف الضحايا سوى الأقبية غير المجهزة سوى بأقل المواد المتاحة، للحفاظ على أرواح لا يبدو أنها مهمة لأحد.
الصيدلانية نور العاملة في أحد المراكز الصحيّة تخبرنا أن الاعتماد الدوائي الأساسي للغوطة يرتكز على بقايا ما تضمه الصيدليات المغلقة أو المتهدمة «نحن نقوم بجمع ما تطاله أيدينا والاستفادة منه بالتغاضي عن بعض المعايير المهمة كتواريخ الصلاحية أحيانًا؛ كان هذا هو المصدر الدوائي لدينا في بداية الحصار، أما اليوم فالوضع كارثي».
لم ينته دور الحصار بعد، فشراكته تمتد لما بعد الموت جوعًا، وهو الموت خنقًا تحت الركام، إذ كثيرًا ما يعجز الأهالي والمسعفون عن استخراج الأحياء تحت الأنقاض لقلة الأدوات المتاحة واعتمادهم على معاول يدوية، ما يسفر عن موت البعض اختناقًا في انتظار فرج لا يأتي.
أحد أشكال الضغط على الأطباء هو اضطرارهم للبتر في كثيرٍ من الحالات، وهو أمر له ما يبرره حسب الناشط فراس العبد الله «حيث يتم إجراء العمليات الجراحية دون تخدير لفقد المواد اللازمة له في الغوطة»، بالإضافة لانتشار أوبئة كالتيفوئيد واليرقان نتيجة لتلوث المياه المستخدمة من الآبار والكباسات؛ ما يزيد بعض الإصابات تعقيدًا وصعوبة في المعالجة.
«كساسبة» لا يهم أحدًا
للعمل على الصعيد الطبي في الغوطة ضرائبه، ليس أكثرها استهداف النقاط الطبية ومراكز الاستشفاء والمشافي الميدانية، بل لعل أشدها على النفس هول ما يلقاه كل من يعمل فيها من مشاهد قد لا تفارقه طيلة حياته، كمشهد طفل يصرخ مستغيثًا طالبًا الحياة وهو يفارقها، أو محاولة إسعاف جسد متفحّم حرقًا فارق الحياة وتربّعت وحشية مشهده في أعين كل من رآه، حسبما تنقل الممرضة أمل «مر على ناظري الكثير من المشاهد الصادمة، لكن أكثرها بشاعة هو ما آل إليه حال جسد الحاج أبو زياد خبية».
وكان أبو زياد يعمل في متجر للدهان والطلاء في سوق دوما، لكن الصواريخ التي انهالت على المدينة لم تستثن السوق ونال متجر أبو زياد نصيبه مع ما فيه من مواد سريعة الاشتعال والانفجار ليدوم الحريق ساعتين، دون أن يتمكن الناس من إخماده بسبب تراكم الأنقاض وطبيعة المواد «جثة غائبة المعالم متفحمة اللون وصل إلينا، مات أبو زياد حرقًا.. ولست أدري بأي عين لا يرى العالم بشاعة مقتله، ليس الكساسبة فقط من قضى حرقًا» تضيف أمل.
حرب إعلامية
التصعيد على الغوطة الشرقية لم يكن بالسلاح فحسب، إذ اقترنت حملة النظام العسكرية بحرب نفسية أخرى سخّر لها مؤيدوه صفحاتهم وتعليقاتهم وإشاعاتهم، كحملة «معًا لحرق دوما»، أو بتناقل ونشر أخبار عديدة -عادة ما ينفيها الإعلام الرسمي للأسد- كتعيين العقيد سهل الحسن (أو ما يعرف بالنمر) على رأس العمليات الدائرة في الغوطة الشرقية، وهو العقيد المسؤول في الأشهر الأخيرة عن جبهة مورك في ريف حماة وحقل الشاعر في ريف حمص.
وبلغ التحريض على المدنيين أوجهًا عديدة بالتزامن مع قصف جيش الإسلام لمواقع النظام في دمشق، الأمر الذي تم استغلاله من قبل إعلام النظام في تجييش المدنيين وبث الكراهية في نفوس قاطني دمشق، فضلًا عن المؤيدين، الأمر الذي يظهر جليًا في تعليقاتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
#دوما_تباد
بدورهم، نظم ناشطون مدنيون من الغوطة الشرقية حملة #دوما_ تباد، التي احتلت مكانها في قائمة الوسوم الأكثر تداولًا في تويتر بعدد تغريدات زاد عن النصف مليون تغريدة، وبحسب ما أفاد به الناشط فراس العبد الله أحد القائمين على الحملة لجريدة عنب بلدي فإنها تسعى لرفع صوت مأساة المدنيين في مدينة دوما التي نالت نصيب الأسد من قصف النظام للغوطة الشرقية.
«نأمل أن تصل الحملة كرسالة لكل من فيه ولو ذرة ضمير ﻹنقاذ الغوطة الشرقية من المجازر المتتالية عن طريق الضغط على الحكومات وغيرها»، يقول فراس «بدنا نوقف الدم عنا، هاد هدفنا الرئيسي والأساسي».
«أطفئوا كاميراتكم واتركونا نموت بسلام» هكذا يقول البعض ممن فقد الأمل في الكلام والإعلام من أهالي الغوطة، لكن أمل تخالف هذا الرأي «الإعلام هو الشاهد على موتنا؛ وإن لم ينطق الشاهد بطلب منا سنكون المسؤولين عن دفن الضحية والتستّر على المجرم؛ ومن هنا تأتي أهمية #دوما_تباد.. لئلّا نباد».