من سوريا إلى فنزويلا يتزايد عرض العضلات وعضّ الأصابع، والابتزاز والابتزاز المضاد، بين الدول الغربية من جهة، وروسيا والصين من جهة ثانية.
إنه مشهد يذكّر المتابع السياسي بصورة العالم خلال عقدي الستينات والسبعينات من القرن العشرين. مشهد «الحرب الباردة» بين الشرق والغرب… التي لم تخفف حماوتها سوى دبلوماسية «البينغ بونغ» الأميركية – الصينية التي أطلقها ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر مع بكين مع نهايات حرب فيتنام. ولاحقاً، خلال الثمانينات، بدأت نهايتها مع ترهّل الاتحاد السوفياتي وانهياره التدريجي في عهدي ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين.
الاختراق الأميركي للكتلة الشيوعية المُنقسِمة عقائدياً، عبر الغزل مع بكين، كانت «ضربة معلم» غيّرت كثيراً من المعادلات في الثلث الأخير من القرن الماضي. وتعزّزت مفاعيل هذا الاختراق في ما بعد مع رهان واشنطن على «الإسلام السياسي» لإكمال محاصرة الاتحاد السوفياتي، عبر السكوت (والأرجح الرضا) عن التغيير الخميني في إيران، وجعل أفغانستان مستنقعاً لموسكو. وهكذا، تحقق «الانتقام الأميركي» المثالي لهزيمة واشنطن في حروب الهند الصينية (فيتنام ولاوس وكمبوديا).
في تلك المواجهة العالمية، أي «الحرب الباردة» – أو «صراع الشرق والغرب» -، يتذكر أمثالي ممن عاشوا تلك الفترة، وعايشوا أحداثها، المسوّغ الأخلاقي – المثالي الذي تحوّل وقوداً لها على امتداد العقود.
لعل ذلك المسوّغ كان صادقاً ذات يوم.
ربما كانت مثاليات واشنطن المتغنّية بالحرية وحقوق الإنسان، في حينه، انعكاساً لـ«مبادئ» الرئيس وودرو ويلسون بنهاية الحرب العالمية الأولى. كذلك كانت مثاليات الاتحاد السوفياتي السابق أيضاً صادقة في ثوريتها الداعية إلى العدالة… والنضال ضد الظلم والاستغلال الطبقي.
أزعم أن طرفي الصراع كانا مؤمنين بالشعارات التي رفعاها وقاتلا وتقاتلا من أجلها في حقبة زمنية ما، قبل أن تتحوّل المواجهة العالمية إلى صراع مصالح بين «إمبراطوريتين» تستغلان معاناة الإنسان وتتاجران بها، بينما هي في حقيقة الأمر آخر همومهما.
الولايات المتحدة التي ثارت ثائرتها بالأمس ضد نظام نيكولاس مادورو في فنزويلا، بحجة قمعه الديمقراطية وتنكره لحقوق شعبه، لديها سجلّ معروف في دعم الانقلابات وبعض الديكتاتوريات العسكرية إبان «الحرب الباردة». وكانت هوليوود بين مَن وثّقوا تلك المرحلة بشجاعة وصدق، وكان بين أبرز الأفلام في حينه (عام 1982) فيلم «مفقود» Missing من بطولة النجمين الكبيرين جاك ليمون وسيسي سبايسيك عن اختفاء شاب أميركي في تشيلي إبّان سنوات ديكتاتورية الجنرال أوغوستو بينوشيت.
أما القيادة الروسية، التي تهبّ اليوم لاستخدام «الفيتو» دفاعاً عن حكم مادورو اليساري بمختلف الوسائل، فهي أولاً لا علاقة لها باليسار أو الاشتراكية من قريب أو بعيد. وثانياً، إذا كانت تتباكى اليوم على الحصار الأميركي للشعب الفنزويلي وعلى سيادة فنزويلا… فهي نفسها القوة العظمى التي استخدمت وما زالت تستخدم كل الوسائل – بما فيها التدخل العسكري – للإجهاز على انتفاضة الشعب السوري وانتهاك سيادة سوريا، والضغط على الدول العربية للتطبيع مع نظام دمشق.
الحقيقة المرة أن معاناة الشعوب غدت ذريعة لتسديد الفواتير وإعادة ترتيب موازين القوى، في غفلة من هذه الشعوب المسكينة.
نعم، في فنزويلا، ما كانت واشنطن راضية عن نجاح «ثورة» هوغو تشافيز اليسارية ضد الطبقتين الثرية والبورجوازية المُرتَبطتين منذ زمن بعيد بالمصالح التجارية الأميركية في نصف الكرة الأرضية الغربي، الذي طالما اعتبرته واشنطن حديقتها الخلفية. وطبعاً جرّبت واشنطن غير مرة إسقاط تشافيز، ثم خلفه مادورو.
ومما لا شك فيه إطلاقاً، أنها – حتى قبل أن يتولى رئاستها رئيس يميني مثل دونالد ترمب – تفضل ألف مرّة أن تسير كل دول أميركا اللاتينية على خُطى الأرجنتين وكولومبيا والبرازيل في خط اليمين المحافظ المتشدد بدلاً من اليسار، أو حتى يسار الوسط كحال المكسيك.
ولكن، كان للشعب الفنزويلي كل الحق في أن يشكو سياسات سلطة دوغماتية، توهمت أنها برفعها شعارات تحرّرية، وتجييشها الرأي العام ضد «التدخلات الأجنبية» المباشرة وغير المباشرة، ستُنسيه معاناته اليومية وانهيار اقتصاده وتفاقم الانقسام الطبقي والمصلحي والسياسي في بلده.
دوغماتية سلطة مادورو أدّت إلى استعداء أجنحة داخل المعارضة الفنزويلية ما كانت مضطرة إلى معاداتها أو تنفيرها. إذ ليس كل معارضي الحكم الحالي من غلاة اليمين أو المستفيدين من الرساميل الأميركية والإسرائيلية، بل ثمة طيف بينهم من يسار الوسط وتيار الوسط. ولو كان للحكم الحالي الحصافة والحنكة لكان قد سعى إلى تحييد هذا الطيف، وعزله عن جماعات لا جدال في ارتباطاتها ونياتها الانقلابية. ولعل أوضح اختبار لدوغماتية مادورو – وما يرشح عن سذاجة حكمه وشعبويته – موقفه المتحمس الداعم لمحور طهران – دمشق في الشرق الأوسط، بينما يعاني السوريون من القمع والقتل والتهجير، و«يحاور» نظام طهران معارضيه بالسجن والمشانق، و«يتعايش» مع جيرانه بتدمير مؤسسات دولهم والاستعاضة عنها بميليشيات طائفية.
في هذه الأثناء، تستغل موسكو استعادة واشنطن زمام المبادرة في «حديقتها الخلفية» لبناء حديقتها الخلفية الخاصة في الشرق الأوسط بالتفاهم مع إيران، وإذا سمحت الظروف، مع تركيا أيضاً.
موسكو تدرك أنه ما كان ليتيسّر لواشنطن التحرّك مباشرة وبهذه الصرامة ضد الحكم الفنزويلي، لولا المد اليميني الذي التقط أنفاسه في البرازيل والأرجنتين، أكبر بلدين في أميركا الجنوبية، مع أنه كان موجوداً أصلاً في كولومبيا، «جارة» فنزويلا… وثالث «الكبار الثلاثة» الأميركيين الجنوبيين.
من منطلق «الهجوم خير وسائل الدفاع»، ترى القيادة الروسية الآن ضرورة استغلال الانشغال الأميركي غرباً من أجل تثبيت نفوذها شرقاً. ومن هنا، مضاعفة الكرملين جهوده لتشديد قبضته – حيث تسمح الظروف – على مناطق النفوذ السوفياتي السابقة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
إن إعادة تأهيل نظام دمشق جزءٌ محوَري من هذه الجهود، وكذلك الإمساك بالعصا من وسطها في عملية ضبط العلاقات مع «الثلاثي الإقليمي» غير العربي، أي إسرائيل وإيران وتركيا.
اليوم نعيش عودة واشنطن وموسكو إلى الثنائية القطبية من أيام «الحرب الباردة»… لكنها هذه المرة بلا آيديولوجيات… ولا مثاليات… ولا أوهام!