محمد رشدي شربجي
أشار بحث مطول أجرته مجلة “فلسلفة” الألمانية (Philosoohie Magazin) إلى تراجع دور النخب السياسية عالميًا، لكن منتقدي النخب التقليدية هذه الأيام ينتمون في أغلبهم إلى طبقات المجتمع العليا ويفخرون بذلك ولا يرون به نقيصة، على عكس المتعارف عليه حين تعامل الداعون للثورات على النخب (مثل تشي غيفارا وكارل ماركس) مع ثرواتهم الشخصية بتشكك وانتقاد. نقطة أخرى أشار لها البحث هي أن هذه النخب محاربة للعولمة ومؤيدة للانعزال، في حين أن اليسار، الذي كان يتعامل تقليديًا مع المؤسسات الدولية كأدوات رأسمالية إمبريالية للسيطرة على الشعوب، بات من الداعمين لها. ما تعد به القوى اليمينية المتطرفة جماهيرها هو العودة إلى الماضي، وهو ما لخصه شعار حملة ترامب الشهير، جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى.
يعيش كل من اليسار واليمين التقليدي هزائم متتالية في كل ميدان. في أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية ودول آسيوية وبلداننا العربية يتراجع اليسار أمام اليمين المتطرف، هناك إحباط من الديمقراطية التي وعدت بالرفاهية ولم تحققها، وهناك خوف وتخويف من ضياع الهوية والتقاليد بسبب العولمة، وغضب من التعدي السافر على عقائد الناس وما اعتادت عليه البشرية منذ نشأتها، وهناك ملل من الشعارات والمعارك التي لا تنتهي ضد الإمبريالية ومؤامراتها. هناك ضيق من الأحزاب والأيديولوجيات القائمة ومن عجزها عن ملء الفراغ القائم.
بعد عقدين من هيمنة ثورية لليسار على أمريكا اللاتينية، نشهد اليوم حلقة جديدة من انهيار هذا المشروع حيث بدأ، في فنزويلا نفسها مهد الثورة التشافيزية البوليفارية، وأعتى قلاع اليسار في العالم، البلد العائم على بحر من النفط يعاني من تضخم قد يصل إلى مليون في المئة، وقد هجره ملايين الناس خلال العام الفائت بحثًا عن الطعام، وتجتاحه المظاهرات المطالبة بإسقاط مادورو خليفة الثورة الفنزويلية. من كان يتوقع أن تتبع معظم أمريكا اللاتينيية الولايات المتحدة في سحبها الاعتراف بالرئيس مادورو، وهي التي كانت تتهم الولايات المتحدة تاريخيًا -عن حق- باستعبادها واستغلالها وتدبير المؤامرات والانقلابات ضد أنظمتها.
والحقيقة أن أدوار أمريكا في العالم ليست نظيفة وهي تستحق النقد، ولكن لا داعي لأن يعلق اليسار مصائبه كافة على شماعة أمريكا بسبب ومن دونه، إن تأييد اليسار لكل فاشل فقط لأن أمريكا ضده هو ما أوصل اليسار إلى هذا الدرك. فليست أمريكا مسؤولة مثلًا عن أن فنزويلا دولة تعتمد على النفط فقط، وأنها لم تطور بعد سنوات طويلة استقرت فيها أسعار النفط فوق 100 دولار للبرميل أي اقتصاد معتبر خارج قطاع النفط، لا بل تراجعت صادراتها غير النفطية من 20% قبل عقد من الزمن إلى 5%، وليست الولايات المتحدة من أوحى لتشافيز بتعديل الدستور ليضمن السماح لنفسه بالترشح لعدد غير نهائي من المرات، ولا هي من دفعت خليفته لتعديل الدستور مرة أخرى وتعطيل البرلمان المنتخب وتدمير الديمقراطية.
وليس بالضرورة أن يتابع المرء ما يحصل هناك، ولكنه من الطريف رؤية توافق نادر في الفضاء العربي على دعم مادورو بحكم أن إيران وتركيا من الدول القليلة التي دعمته، اللهم عدا عن الإمارات لسبب غير مفهوم (سوى دعم تركيا وإيران لمادورو) والتي يعتبر أنصارها ما يجري هناك ثورة تستحق الدعم. شكرًا للثورة الفنزويلية التي جعلتنا نشهد أتباع الإمارات يدعمون “ثورة” ما في أي مكان في العالم.
في دولنا العربية نعيش ما بعد هذا الصراع -أو ما قبله إذا صح التعبير- والحمد لله لدينا صراع من نوع آخر، لدينا محور مقاومة يدعم كل رئيس فاشل أو مجرم أو ساعٍ لأن يجلس على كرسي الحكم إلى الأبد، ولدينا محور معاكس يتكفل بدعم الفاشلين الذين لم يجدوا داعمًا لدى المحور الأول. لدينا تنظيمات هاربة من كومبارس فيلم الرسالة أو مسلسل الزير سالم والله أعلم، ليس لدينا يسار ويمين، لا تقليدي ولا متطرف، لا ليبرالي ولا نيو ليبرالي، لدينا بشار الأسد والسيسي والبشير والجولاني وحسن نصر الله وابن سلمان وابن زايد فقط لا غير، فالحمد لله على نعمة العيش خارج العالم.