حنين النقري – دوما
تبدأ نهارك بمعدة ممتلئة، لا تشعر بإنهاك الصائم، جوعه أو عطشه، وتستطيع التركيز على مهامك ومتابعة نشاطاتك وأعمالك بحيوية..
لكن ما إن تمرّ ساعة أخرى.. ساعتان، حتى يبدأ أثر الصيام يلوح عليك، بقرصة جوع أو جفاف لسان، صداعٌ وتعب جسدي عام…
كان الأمر سيكون أسهل حتمًا لو كان رمضاننا في الشتاء، نهارٌ قصير لا تكاد تشعر بمروره.. وبردٌ لا تشعر معه بعطش..
أما مع «آب اللهّاب» بنهاره ذي الست عشرة ساعة، فالأمر أصعب بالتأكيد…
أصعب، وأطول.. ولدينا من الوقت المتسَع لنعيد التفكير ثانية، بهذا السيناريو «العادي» الذي يبدو للوهلة الأولى، أن لا جديدَ فيه!
لكنه لن يبقى عاديًا مع نظرةٍ أكثر عمقًا، مع تغيير بسيط في بعض المسميات..
بدايةُ ثورتنا كم كانت شبيهةً بساعات صيامنا الأولى، عندما كانت طاقتنا وحيويتنا في أوجِها، يوم انتفضنا ثورةً لأخٍ أو جارٍ أو مدينة نُكّل بها، لم تنل سطوة النظام ويدُ إجرامه بعدُ من الجميع، معظمنا كان لا يزال قائمًا على رأس عمله، متابعًا لنمط حياته الطبيعي. هكذا كانت الشهور الأولى، كبداية نهار الصائم تمامًا… لازال في معظمنا الرمق ﻹتمام صيامٍ لم نشعر بجوعه بعد..
مع مرور الوقت، بتنا نسمع دعوات البعض، يرجو ويتمنى ألا تطول أيام وشهور هذه الثورة، كصائمٍ بدأ يشعر بالجوع ينهكه، ينال منه شخصيًا، بنقصٍ في الأموال واﻷنفس والثمرات… وبدا أن الجميع يريدونه نهار صيامٍ قصيرًا، كنهار كانون مثلًا!
وكما لا يمكننا إنقاص ساعات نهار يومنا الطويل، فإنه لا يمكن لأحدٍ أن يحدد عِدّة أيام ثورتنا فيزيدها أو ينقصها، ومرت شهور وتلتها شهور.. وازداد النظام تنكيلًا وإجرامًا، واستمرت تضحيات الشعب باﻷرواح والدماء والأموال، التشرد والفقر والجوع، بدأت ملامح الصيام تبدو على جسد البلد المنهك أكثر، كلما مرّ يومٌ بدت الأمور أكثرَ ألمًا، كحالها في نهارٍ لا يلوح لنا موعد الفطر فيه، وبدا أن ثورتنا، كنهار آب الطويل اللهّاب، تحتاج إلى نَفَسٍ طويلٍ، وصبرٍ جميلٍ نتحلّى به جميعًا دونما تذمّرٍ يفقدنا نقاء ثورتنا/صيامنا…
مقاربةُ واقع ثورتنا لنهار صيامنا الطويل والمنهك، تعني أن نتذكر أن أشد ساعات النهار إنهاكًا للصائم هي الساعة الأخيرة من صيامه.. تعني أن هذا الألم هو أملٌ في حقيقة الأمر…
تمنحنا ثنائية «رمضان- الثورة» عمقًا آخر ورؤية جديدة، وتسمح لنا أن نقرأ حديث معلّمنا وقدوتنا محمد عليه صلوات الله وسلامه إذ يقول: «للصائم فرحتان، فرحةٌ عند فِطرِه، وفرحةٌ عند لقاء ربّه».. أن نقرأه بكثيرٍ من الاستبشار، بإفطارٍ لن تكون فرحتُه عنّا بعيدة، بإذن الله..
الفرحة التي ستكون على قدر المشقّة، وعلى قدر طول النهار أيضًا…
ومن المهم أن نتذكر أيضًا أن صيام «درجات المئذنة» هو صيام الأطفال فقط، أما صيام الراشدين فمتّصلٌ مستمرٌ، وإن وهنوا أو ضعفوا، لا بد من المتابعة والصبر، وكما لا يُحتسب صيام نصف نهار، كذلك لا تُحتسب أنصاف الثورات ولا تأتي أُكُلها قطّ!
مُتعبٌ؟، ضحّيتَ بالكثير؟، تشرّدتَ من منزلك، فقدتَ عزيزًا؟
كل ذلك طبيعي، جزء من ثمن – ندفعه جميعًا- لثورة سيكون جزاؤها حرّية بعد طول عبودية، جزء من مشقّة صيام أزكى ما يعلّمنا إياه الصبر على أصعب الظروف، تحدّي الجسد والثورة على عبوديته وحاجاته، والتصبّر على فقد أهمّ مقومات الحياة – كالغذاء والماء-
سترى الكثيرين يخرجون عن طورهم، يعبّرون عن تذمّرهم وتشاؤمهم. سترى آخرين يتصرّفون بشكل مسيء لا يتناسب وأخلاق الثائر/الصائم. كل ذلك سيكثر تحت تأثير التعب والإرهاق وطول النهار في ساعة الصيام الأخيرة، لكن شيئًا منه لن يفقد الصيام/الثورة بهاءها وقدسيتها..
فلنكن لبعضنا عونًا على أصعب ساعات نهار صيامنا وآخرها، وإن قابلك ثائرٌ ما بإساءة أو خطأ فاعمد إلى تصحيحه ونُصحِه بحكمةٍ ووعي، ولْتذكّره: نحن في الساعة الأخيرة، فاصبر!