يرتل داوود مزاميره في حلكة الليل بعيدًا عن الناس، وينقطع عن أعباء الحكم وهموم القضاء ويحلق في فضاء رحب من الوله والتبتل.
عند الشفق مع اضمحلال الظلام وظهور بوادر فجر جديد، تقتحم خلوته أصوات عالية لا يتبينها… يغلق عينيه وأذنيه ويتعجب كيف للضجة أن تتسلق جدران المعبد وتصل إلى محرابه القاصي في هذا الوقت المبكر؟! لكنها تزداد قربًا ليقتحم عليه الخصمان بعد تسلقهما الأسوار.
لأن لأحدهما تسعًا وتسعين نعجة فالأولى أن تكمل المئة، فهو الأجمل والأعلى والأقوى والأكثر صدارة. لا مكان للمشاريع البسيطة ولا حتى المتوسطة، إما أن تتحدى الجميع وتفوز عليهم وتتكفل بأموال الشعب بنفسك، أو تلحق بالركب الطويل الممتد عبر التاريخ للمتسولين والعاطلين.
يقرر الباغي بعنجهية أن على السلطة الحاكمة أن تدعمه، فهو من أوصلها بالمال، وهو من يمثل الاقتصاد الوطني ويرفع قيم الاستثمار.
يخر داوود راكعًا وينيب يصحو على الواقع المؤلم الذي هرب منه إلى العبادة ويدرك هول المسؤولية.
دعوى قديمة جديدة، بعد أن توصلك عذابات بني إسرائيل الطويلة (قتل أولادهم، استحياء نسائهم، تشريدهم في الأرض ثم التيه في الصحراء لأربعين عامًا لشعب كامل مقطع الأوصال يعيش على الصدقات)، تظن أنك المختار ستغير العالم وستنصر الفقراء والمظلومين، فتكتشف في لحظة صادمة أنك تدور وتدور في فلك جبابرة المال والشركات العابرة للقارات، بينما تزداد الشعوب فقرًا وحاجة وبطالة، ويكون عليك تأمين احتكارهم المتزايد وغير المبرر، إلا بالحاجة للكمال لوسائل الانتاج، النفط، الماشية، الأراضي الزراعية، المعامل، حقوق الاستيراد والتصدير، الماء، لا بل حتى الهواء. إنها المافيا الربوية التي تخنق العالم وتحوّل شعوب الشرق الأكثر ثراءً إلى متسولين وجامعي صدقات.
هلا تحولت يا سيدي عن ترتيلاتك الخاشعة وأنشدت مزمارًا جديدًا يفتح المحراب للناس بلا أسوار، ويحوله إلى قاعة محكمة تصدح بالحق دون تحيز فردي أو طائفي أو فئوي أو طبقي.
((يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله…))