لم تحمل عودة بعض السفارات الخليجية إلى الأسد مفاجأة، وكذلك هو الحال مع العودة المرتقبة للأخير إلى جامعة الأنظمة العربية. في الأصل، يعلم الجميع عدم وجود خلافات جوهرية بين الأنظمة التي تتشارك بدرجات أسلوب القمع، ونعلم أن الأنظمة التي تعيد سفاراتها بذلت في مستهل الثورة جهداً مع بشار الأسد من أجل تقديم تنازلات بسيطة يمكن أن تطوي صفحة الثورة، وكان ذلك الجهد مقروناً بوعود مالية، ولم يكن نفوذ حزب الله وطهران قد ظهر على النحو الذي سنشهده في ما بعد. لكن يبقى أهم ما في التقارب الحالي مع بشار هو مجيئه ضمن مناخ دولي يحثّ عليه، وسيكون من الصعب علينا تخيّل خطوات من هذا القبيل لا تكون منسقة مع دوائر صنع القرار الأمريكي، ولا تتصل برغبة ترامب في الانسحاب من سوريا تمهيداً لتسوية مشينة.
بعد ما يزيد عن السبع سنوات قليلاً يأتي التراجع عن قرار الجامعة العربية، بطريقة منفردة أولاً، والطريف أن القرار المذكور قد اشترط على بشار الأسد التعهد بتوفير الحماية للمدنيين. في تشرين الثاني عام 2011، تاريخ القطيعة، لم يكن بشار قد قتل واعتقل سوى آلاف قليلة من السوريين، ولم يكن قد بدأ معركة الإبادة والتهجير الكبرى التي ستودي بالملايين. اليوم، بعد ارتكاب جميع الفظائع خلال تلك السنوات، تأتي المبادرة كأنها مكافأة على استخدام أقصى الوحشية من أجل البقاء في السلطة، وتُغطى بمبرر لم يكن موجوداً في قرار الجامعة، أي مواجهة النفوذ الإيراني!
كان ترامب أول من استعجل إفشاء السر، عندما أعلن على حسابه في تويتر استعداد السعودية لإعادة الإعمار بعد إعلانه قرار الانسحاب من سوريا. ورغم محاولة التنصل مما كتبه الأخير فإن الذرائع التي تُساق اليوم تدل على صحته، ومنها عجز طهران باقتصادها المتردي عن نجدة بشار اقتصادياً، ومنها أيضاً أنه كان في الحرب أقوى مما سيكون عليه في السلام، وبالتالي سيكون مستعداً لتقديم تنازلات من أجل جزرة إعادة الإعمار؛ تنازلات تحديداً في ملف النفوذ الإيراني عليه.
يكفي أن نتابع التحليلات التي أخذت تتوالى في إعلام الأنظمة الذاهبة للتطبيع مع بشار كي نحظى بأفكار لم تكن مقدماتها واردة قبل أسابيع قليلة، ولا يندر أن يكون أبطالها هم أنفسهم الذين شغلوا الصحافة وشاشات التلفزيون بإداناتهم القاسية لجرائم بشار. المفاجأة التي تلقاها هؤلاء جعلتهم مثل راقصة ستربتيز وجدت نفسها مضطرة لإنهاء فقرتها على عجل، فراحت تخلع ملابسها على نحو كاريكاتوري. هكذا مثلاً ستغيب نغمة التخويف من المشروع الإيراني، بما أن العقوبات الاقتصادية ستتكفل بانهيار النظام أو انهيار مشروعه الإقليمي قريباً كما بات يُروّج. الإشارة الخجولة إلى نفوذ طهران على بشار سيتم استدراكها سريعاً بالتنويه بالنفوذ الروسي الأقوى وبمصالح روسيا التي تقتضي إزاحة طهران، ولا حاجة لتقديم معلومات عن النوايا الروسية حيث يتكفل الحديث عنها بجعلها مؤكدة!
من المتوقع ألا تشعر القيادات العربية بالعار جراء التطبيع مع الجريمة التي يمثّلها بشار، هذا ينبغي ألا يكون حال الذين يبذلون اليوم جهودهم من أجل تسويغ التطبيع. الإسراع باتهام من يفعل ذلك بأنه بوق للأنظمة، أو مرتزق لديها، قد لا يكفي لشرح مقدار العار الحالي واللاحق. فنحن اليوم نرى انقلاباً يؤسس لمرحلة تجعل الكثيرين يتأسفون على زمن ما قبل الثورات العربية، لأن تلك الأقلام ذاتها كان في وسعها آنذاك إبداء شيء من الاستقلالية، وهي ذاتها الآن على مقصلة الانتحار المعنوي مؤدِّية الخدمة لأرباب الثورة المضادة.
ربما يستشعر البعض من هؤلاء العار الذي سيجللهم، في عيون من يشهدون انقلابهم، فتأتي تبريراتهم لتلقي باللوم على الشعوب وعلى الثورات التي خيّبت ظنهم. هكذا سنقرأ تحليلات عن “الأزمة السورية” التي تسببت بالقتل والتهجير، إنما مع تجهيل الفاعل واستخدام تعبير “ما يُسمى ثورات الربيع العربي” تبرؤاً من التسمية. الأسوأ هو القول بأن ثورة السورية قد اختُطفت من قبل الإرهاب، مع تحميل السوريين المسؤولية ضمناً، فهنا تحديداً يبرز عار الكذب والتدليس، أي مع تناسي الدور العربي في دعم ما بات يُسمى إرهاباً.
نستطيع تسمية عشرات الفصائل الإسلامية التي كانت مدعومة من الأنظمة التي تتقرب من بشار، ونستطيع استرجاع انتهاكات هذه الفصائل في حق نشطاء الثورة، مثلما نستطيع التذكير بدور تلك الأنظمة في إيقاف المعركة على تخوم دمشق، سواء من جهة الغوطة أو من جهة الجبهة الجنوبية، إرضاء لواشنطن المصرّة على حل سياسي. نستطيع أيضاً التذكير بالضخ الإعلامي الذي يركّز على المعركة المشتركة ضد المشروع الإيراني، ويروّج مقولات من نوع “الدم السنّي واحد”، من دون إعفاء سوريين لاقوا ذلك الضخ ورأوا فيه فرصة لدعم يحتاجونه، ومن دون تبرئة سوريين ركبوا الموجة تكسّباً ولم يجدوا داعماً يردعهم بقدر ما وجدوا داعماً يبحث عن مرتزقة من أمثالهم.
إن فضيحتنا بإعلاميين ومثقفين يتناسون المقتلة السورية “تحت مسمى الأزمة”، ويتناسون دور الخارج فيها ومن ضمنه الأنظمة التي يدافعون الآن عن سياساتها الجديدة، لا تقل بأي شكل عن عار الذين دافعوا عن جرائم بشار منذ البداية. ومع أن مثقف السلطان ليس بجديد علينا وعلى عموم القراء إلا أن الدور الذي يؤديه لم يعد يتوقف عند الترويج لسلطانه؛ الدور الأدهى والأخطر هو تسفيه مفاهيم مثل الثقافة والمعرفة والإعلام، ونزع الاستقلالية عن هذه الحقول بحيث توضع أية كتابة أخرى موضع شبهة، وبحيث تصبح مفاهيم مثل الحرية والحقيقة والعدالة مجرد ألاعيب لغوية تخفي وراءها قدْراً من عدم النزاهة. نحن، في أحسن الحالات، بعيدون عن الترويج لوجود إعلام يضمن حجم الحرية الذي نتمناه للقارئ والكاتب، ووجود كتّاب قيد الطلب يسهّل مهمة كل سلطة ترغب في تسفيه الكتابة والرأي. هؤلاء لا يكتفون فقط بأن يروا العالم على شاكلتهم، بل يبذلون ما في وسعهم ليصبح كذلك.