خطيب بدلة
كان هناك أناسٌ غافَلُونا، بينما نحن متزاحمون في ساحات الحرية نهتف لـ “الثورة”، وخرجوا إلى البراري ليقطعوا الطرقات، ويشلحوا الناس، ولدى انتهائهم من عمليات التشليح كانوا يخبئون المسروقات في أماكن أمينة، ويعودون إلى الساحات، ويهتفون لـ “الثورة” و”إسقاط النظام” حتى تتمزق مؤخراتهم من عزم الهتاف.
الثورة ما هي بجديدة علينا نحن السوريين، فكل ضابط عسكري سَيَّر دبابتين وعربتين مجنزرتين وبضعة جنود واحتل الإذاعة وأعلنَ بيانًا يحمل الرقم “واحد”، كان يسمي عدوانَه على استقرار البلاد والسلطة التي كانت موجودة قبله “ثورة”! حسني الزعيم، في سنة 1949، “ثار” على الحكم السوري الذي لما يبلغْ مِنَ العمر سوى ثلاث سنوات منذ إعلان استقلال سوريا 1946، وأنهاه.. وسامي الحناوي عمل “ثورة” على ثورة حسني الزعيم قبل أن يصير عمرها نصف سنة، ووضعه في خبر كان.. وأديب الشيشكلي أزاح سامي الحناوي وأرسله، مع ثورته، إلى الجحيم.. وفي سنة 1958 حقق الثورويون القومويون البندَ الأهمَّ ضمنَ أهدافهم الثلاثة، وهو “الوحدة”، فكانت وحدةُ الإقليمين الجنوبي (مصر) والشمالي (سوريا) ثورةً على الواقع العربي المتخلف، ثورةً ساحقة ماحقة ألغت الحرية السياسية، وأرسلت السياسيين إلى السجون، وأمرتْ بحل الأحزاب، وأغلقت البرلمان، وأممت الصناعات الناشئة، وضربت التجارة، وتركت لِأَهالي الإقليمين العربيين الشقيقين مطلقَ الحرية في اختيار الوقت الذي يناسبُهم لحمل اللافتات والركض في الشوارع، والهتاف باسمِ “ناصر”.
وكان الانفصال (1961) ثورةً على استبداد جماعة الوحدة، ولكنها ثورة قصيرة، لم نجد نحن السوريين الوقتَ الكافي لنعرف إن كانت “مليحة أو عاطلة”؛ إذ سرعان ما عَاجَلَتْها تشكيلةٌ من الضباط القوميين والاشتراكيين بثورة ساحقة ماحقة هي ثورة الثامن من آذار 1963 التي ثار ضباطُها، فيما بعد، بعضُهم على بعضهم الآخر، وصفى بعضُهم البعضَ، حتى استقر الحكم فيها لحزب البعث.
ولأجل أن يتميز النظامُ الثوري في سوريا عن غيره من الأنظمة السياسية في العالم، ابتكرت ثورةُ الثامن من آذار، على الصعيد الداخلي، “قانون الطوارئ”، وكان أهم اكتشافاتها، على صعيد اللغة، عبارة “يد من حديد”، بدليل أن معظم بياناتها الثورية كانت تنتهي بجملة تقول “سنضرب بيد من حديد كلَّ من تسولُ له نفسه العبث بأمان البلاد واستقرار البلاد”.
داخِلَ حزب البعث نفسه، كانت هنالك ثورات.. فالرفيق صلاح جديد وجماعته ثاروا على جماعة الرفيق أبي عبدو محمد أمين الحافظ، في شباط فبراير 1966، وأبعدوهم عن السلطة.
وكانت نتيجة ذلك الغيم الأسود أن حافظ الأسد ثار على جماعة الثورة الشباطية نفسها، في تشرين الثاني نوفمبر 1970، وقَتَلَ منهم مَنْ قَتَل، وأرسل الباقين ليموتوا في السجون، وسرعان ما تبين لنا، أن حافظ مولع بـ “الحديد” البعثي، إذ جاءنا بـ: يَدٍ من حديد، وقَدَمٍ من حديد، وقيودٍ من حديد، وسلاسلَ من حديدٍ وزَرَد، ثم أطلق أخاه رفعت وكلابَه في الشوارع، وراحوا يعجقون في “بسطات” عباد الله جيئة وذهابًا، يمشون ويتبخترون، ويقتلون، ويُهَجّرون، ويُجَوّعون، ويَسرقون، وينهبون، فما يزيد ذلك ملايين السوريين إلا حبًا بالقائد حافظ الأسد، وبثورته، وبحركته التصحيحية (المباركة).