ترامب وسورية والأكراد.. انحطاط البراغماتية
قال لي والدي مرّة، وكنت فتى في العاشرة، إن الفرق بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي أن البريطانيين مخلصون لحلفائهم وعملائهم، بينما لا يأبه الفرنسيون بذلك. والدي من مواليد 1910، وتوفي في 1992، وكان اعتزل السياسة والحياة العامة قبل ذلك بعقدين. الرؤساء الأميركيون بالنسبة له هم فرانكلين روزفلت، ودوايت أيزنهاور، وجون كينيدي. وكان آخر عهده بالسياسة، حين انفجرت فضيحة ووترغيت، فراح يشتكي لرفاقه عن المستوى الذي وصلت إليه الحال في السياسة العالمية. لم ينتظر والدي ليرى تردّي السياسة الأميركية في عهد ريغان، وجورج بوش الابن، وباراك أوباما. وكان من حسن حظه أنه لم يسمع باسم دونالد ترامب، الرجل الذي ساق البراغماتية الأميركية إلى مستوى لم تعرفه سابقا من الانحطاط الأخلاقي والإفلاس السياسي.
الفرق بين براغماتية ترامب وبراغماتية الرؤساء الآخرين أن سابقيه كانوا، على الأرجح، يضعون أميركا (أو جزءا منها) في بالهم، وهم يصنعون قراراتهم، فيما لا يضع ترامب نصب عينيه سوى مصلحته الفردية الضيقة، وما يحيط بها من عائلة وأعمال ومال. لا يكترث لمبدأ، ولا يحترم قيمة، ولا يراعي صديقا أو حليفا. لم يرفّ له جفن، وهو يتخلى عن كبير موظفي البيت الأبيض الذي كان يلمّ القذارة التي يخلّفها ترامب في كلّ حركة يقوم بها، ورمى وراء ظهره كلّ مساعديه الذين يحقّق معهم المحقّق المستقلّ، روبرت مولر، في فضائح التآمر مع روسيا.
ومع ذلك، لا شيء يمكن أن يقارن بالخطوة التي أعلن عنها قبل أيام: سحب قوّاته من سورية، والتخلّي عن السوريين عموما، والأكراد في شمال شرق سورية خصوصا. وهو استخدم أكراد سورية كما يستخدم أي لاعب ورق محترف ورقة الجوكر، فحصد من ورائها ما حصد، ثمّ رمى بها بعيدا، وجمع نقوده ومضى، لا يلوي على شيء.
هل كان قرار ترامب مفاجأة؟ نعم ولا. نعم، لأن ترامب نفسه وإدارته توصلا قبل أشهر فقط (سبتمبر/أيلول) إلى استراتيجية أميركية جديدة في سورية، تقضي ببقاء غير محدود للقوات الأميركية في سورية، حتى نهاية تنظيم الدولة الإسلامية نهاية تامّة، وحتى (وأرجو الانتباه جيدا) سحب إيران قوّاتها، والكفّ عن التدخل المستمرّ في السياسة السورية. وكم كان جيمس جيفري مبعوثه الخاص لسورية فخورا وهو يتشدّق بذلك، حتى قبل أيام.
ونعم، لأن معظم مساعدي ترامب لم يكونوا موافقين على القرار، بدءا بوزير الدفاع المحنّك، جيمس ماتيس، الذي استقال الخميس الماضي، احتجاجا على انسحاب ترامب من سورية، وانتهاءً بأعضاء الكونغرس من الجمهوريين والديمقراطيين. وجاء انتقاد هذه الخطوة من أقرب المقرّبين إلى الرئيس، والمدافعين عنه. “إنه خطأ كبير”، هكذا كتب السناتور الجمهوري، ماركو روبيو، من فلوريدا، على “تويتر”، متابعا، “إذا لم يتمّ إيقاف ذلك، سوف يطارد هذه الإدارة وأميركا لسنوات مقبلة”. أما حليف ترامب، السيناتور ليندسي غراهام، الجمهوري، من ولاية كارولينا الجنوبية، فدعا إلى عقد جلسات استماع للكونغرس بشأن القرار.
وحدّدت صحيفة واشنطن بوست الرابحين من قرار الرئيس ترامب بأربع فئات: إيران وروسيا وبشار الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بينما حدّدت الخاسرين باثنين: الأكراد وإسرائيل، ناسية طبعا السوريين بعمومهم، فهم لا يشكّلون كبير فرق.
لم تكن الخطوة مفاجئة جدا من منظور آخر، فنحن لم نعرف عن ترامب يوما اهتمامه الحقيقي بأي قضية أو شعب أو مهمّة. وإن كان ثمّة ولاء حقيقي لترامب، سوى ولائه لنفسه وشركاته، فهو للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وقد توصّل بوتين وتركيا إلى اتفاق فيما يخصّ الشمال السوري، ولا يتعيّن على الولايات المتحدة أن تعيق ذلك الاتفاق. وفي يونيو/حزيران 2017، قال السفير الأميركي السابق في سورية في مقابلة مع صحيفة الشرق الأوسط: “أعتقد أن ما نقوم به مع الأكراد ليس فقط غباء سياسيا، بل غير أخلاقي. الأميركيون استخدموا الأكراد سنوات طويلة خلال حكم صدام حسين”. هل تعتقد أن الأميركيين سيعاملون حزب الاتحاد الديمقراطي، ووحدات حماية الشعب، بشكل مختلف عما عامل (وزير الخارجية الأسبق) هنري كيسنجر الأكراد العراقيين (عندما تخلى عنهم)؟ “بصراحة، مسؤولون أميركيون قالوا لي ذلك. الأكراد السوريون يقومون بأكبر خطأ عندما يضعون ثقتهم في الأميركيين”.
وبعد ذلك بسنة، كتب صاحب هذه السطور في “العربي الجديد” أن المبعوث الخاص الأميركي إلى التحالف العالمي لهزيمة داعش، بريت ماكغورك، قرّر أن يستخدم الكرد رافعة للحرب على التنظيم الإرهابي، رافضا التعاون مع المكوّنات السورية الأخرى. ونجحت “قوّات سوريا الديمقراطية” ووحدات حماية الشعب، في إزالة “داعش” من منبج، بعد أن عبرتا نهر الفرات، وخاضتا، خلال أكثر من ثلاثة أشهر في صيف عام 2016، معارك ضارية وصعبة للغاية ضدّ “داعش”، فقدتا خلالها نحو ثلاثمائة مقاتل. ومنذ ذلك الحين، خفّت، إلى حدّ كبير، حدّة العمليات الإرهابية في العالم، ومن ثمّ بدأت قبضة “داعش” تفلت في سورية، إلى أن تمّ القضاء عليه نهائيا. في الوقت نفسه، بعد معركة منبج، بدأت تركيا في تلك المنطقة عملياتها المسمّاة “درع الفرات”، والتي دعمت فيها تركيا قوى المعارضة، وقامت، فيما بدا أنه غضُّ طرفٍ من الأميركان والروس، بتطهير هذه المنطقة المسماة جيب منبج من “داعش”. وبذلك أحكمت إغلاق الزجاجة، حيث كان “داعش” يحاول التسلل داخل سورية وخارجها. ليس هذا الأسلوب غريبا على واشنطن، وليس غريبا أيضا أن يقع الكرد مرّة ومرّة في هذا المطب. لقد عانوا عقودا طويلة جدا من سياسة تمييز قومي ومجتمعي من نظام “البعث” الحاكم في سورية، لذلك حين فتحت أمامهم أبواب للنجاة، ما كان عليهم سوى أن يخرجوا منها.
ولم يكن ذلك بدون ثمن، فقبل يوم واحد، وقّعت تركيا اتفاقا مع الولايات المتحدة لشراء 80 صاروخا من طراز باتريوت بقيمة 3.5 مليار دولار. هو سعر معقول للتخلي عن الأكراد، وترك سورية لإيران وترك الأكراد لتركيا. وما على الرئيس أردوغان الآن سوى التفكير في صفقة ينتج عنها تسليمه خصمه التاريخي فتح الله غولن. ولم لا؟ إنه عالم خالٍ من القيم. إنه عالم ترامب.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :