ما بين هذيان الرئيس الاميركي دونالد ترامب ونبوغه شعرة لن تقطع. وما بين كونه يصنع التاريخ أو يمزقه خيط رفيع لا يمكن تبينه، برغم أنه يحول واشنطن من عاصمة أمبراطورية تحكم العالم وتدير شؤونه، الى أشبه ما يكون بمدينة ملاهٍ أو سيرك..او حتى الى مصح للإمراض النفسية.
لم يسبق للعاصمة الاميركية أن بدت على هذا النحو من التخبط والفوضى، وعلى شفير أزمة دستورية خطيرة، كما كتب مؤخراً عدد من حكمائها السياسيين. لم يسبق أن تهاوت قضاياها وأفكارها وأخبارها الى هذا الحد الذي يجعلها تبدو مثل محطة تلفزيونية لألعاب التسلية والترفيه، أو ربما إحدى محطات تلفزيون الواقع التي شهدت مع ترامب بالذات إنطلاقتها المذهلة في تسعينات القرن الماضي، قبل ان تصبح موجة عالمية كاسحة.
لم يعد هناك خبر يأتي من واشنطن يمكن أن يؤخذ على محمل الجد. الاخبار المزيفة هي الثقافة السائدة، التي يعممها الرئيس ومستشاروه ويتورط فيها بعض الاعلام الاميركي العريق: لا يمكن الجزم حتى الآن بخبر الانسحاب الاميركي الكامل من سوريا، والجزئي من أفغانستان، الذي أعلنه ترامب بنفسه، الاسبوع الماضي، وأثار دهشة في مختلف أنحاء العالم، وغضباً لدى حلفاء أميركا وفرحاً لدى خصومها.
كانت تلك هي المرة الثانية او الثالثة هذا العام التي يعلن فيها ترامب مثل هذا القرار، او تلك النية، من دون التشاور المسبق مع أقرب وزرائه المعنيين بالامر، ومع أقرب حلفائه الاوروبيين الغربيين المشاركين في الانتشار العسكري في سوريا وفي أفغانستان. قيل أنه، هذه المرة أبلغ الجميع سلفاً، بمن فيهم إسرائيل، لكنه الجميع ردوا بالاعتراض والاستغراب. غير أنه لم يتراجع حتى الآن على الاقل، وربما لن يتراجع. والدليل قراره تعطيل بعض المؤسسات الفيدرالية عن العمل، للضغط على الكونغرس كي يوافق على تمويل بناء الجدار مع المكسيك.
الأرجح أنه جدي هذه المرة بقرار الانسحاب، بدليل إستقالة وزير دفاعه جيمس ماتيس إحتجاجاً على قلة إحترام الحلفاء والوزارة والمؤسسة العسكرية. والمنطق يقول أنه من الاجدى التعامل مع القرار بأنه ليس مجرد هذيان رئاسي جديد، بل خطوة تنطق بالهوى الاميركي الفعلي، او هي على الاقل تعبر عن رأي عام واسع يميل الى سياسة العزلة التي ينفذها ترامب، ويرى أن جميع حروب أميركا في العالمين العربي والاسلامي على مدى العقود الماضية، كانت كلها خاسرة، أو غير مجدية، هدرت فيها أميركا ترليونات الدولارات، حسبما يكرر الرئيس ويوافق الجمهور. وهو رقم قريب من الدقة. غزو العراق وحده كلف أميركا ما بين 800 مليار وترليون دولار، وإنتهى الى تسليم العراق الى إيران والى الشيعة العراقيين الذين عاثوا فساداً في الدولة ومؤسساتها، ورفعوا شعارات للحكم مثل “الثأر للحسين”، و”لن تسبى زينب مرتين”..
يخطىء من يضع القرار الاخير في سياق الصراع على الارض السورية، مع الروس والاتراك والايرانيين والسوريين. هو في الجوهر، قرار بالخروج من المشرق العربي كله، ومن العالم الاسلامي. هو يمس إسرائيل مثلما يصيب سوريا والعراق وتركيا والسعودية ومصر. هو ليس إنسحاباً تكتيكياً من إحدى جبهات القتال غير المجدية، او المرشحة للاقفال. في مختلف العواصم العربية والاسلامية، كما في إسرائيل، سيترك الاميركيون خلفهم الكثير من اليتامى والمشردين، والقليل من المتربعين على عروش القوة والهيبة والنفوذ، والاقل من المحاربين الذين كانوا يتمنون بقاء أميركا لمقاتلتها ودرحها.
سحب أكثر من ألفي جندي أميركي من سوريا وأكثر من ثلاثة أضعافهم من أفغانستان، هو تحول إستراتيجي لا شك فيها. إذا تم فعلا. وهو سيشمل في مرحلة لاحقة الخليج العربي واليمن وشمال أفريقيا. المظلة الامنية الاميركية تسحب تدريجياً عن تلك الجغرافيا السياسية التي ظلت منذ بداية الحرب الباردة مع السوفيات ملعب الاميركيين ومرتعهم الاهم. لن يبقى بلد واحد على حاله، او داخل خريطته أو ضمن حدوده. ثمة مرحلة أكيدة من الفوضى الناجمة عن التنافس بين القوى الاقليمية لسد الفراغ الاميركي، طالما أن روسيا ليست مؤهلة لمثل هذا الدور، لا بقوتها العسكرية ولا بفكرتها السياسية ولا طبعا بقدرتها الاقتصادية، وطالما أن أوروبا الغربية ليست مهتمة أصلا بمثل هذا الدور.
لن يكون هناك شعب عربي او مسلم بمنأى عن مثل هذا القرار التاريخي..الذي يمكن ان يمحوه ترامب بتغريدة جديدة، لا أكثر.