منصور العمري – واشنطن
يُعتبر البحث المقارن منهجية في العلوم تهدف إلى إجراء مقارنات بين مختلف البلدان أو الثقافات. لا يكاد يخلو أي علم من هذا المنهج، فنجد السياسة المقارنة، والأدب المقارن، والتاريخ المقارن، وغيرها.
يُعتمد هذا المنهج أيضًا لمحاولة فهم واقع ما استنادًا لمقارنته بواقع ماضٍ مشابه. لا يشترط التطابق الكامل، بل يكفي وجود أوجه مشتركة، وهو ما تشير إليه مقولة “التاريخ يكرر نفسه”.
عند زيارتي منذ أيام لمعرض سوريا المقام منذ عام في متحف الهولوكوست بواشنطن، والذي يسلط الضوء على مأساة المعتقلين في سوريا، وجرائم نظام الأسد، رافقتني المؤرخة بيكي إيربيلدينغ بجولة في معرض مجاور افتُتح مؤخرًا تحت اسم “الأمريكيون والهولوكوست“.
يقدم هذا المعرض صورة للمجتمع الأمريكي إبان الكساد الاقتصادي في ثلاثينيات القرن الماضي، ومدى انتشار الانعزالية وكراهية الأجانب والعنصرية ومعاداة السامية حينها، وتأثيرها في صناعة قرارات الولايات المتحدة، وفي وسائل الإعلام، والسينما في هوليوود، والمنظمات، والأفراد، وكيف صاغت هذه الجهات الردّ على النازية والهولوكوست.
هو ما نراه اليوم ينتشر في المجتمع الأمريكي من معاداة للأجانب والمسلمين واليهود، والعنصرية، ومحاولات الانغلاق على الذات ببناء الجدران وتقييد تأشيرات الدخول، والتي تمثلت في انسحاب أمريكا من الشرق الأوسط أيام أوباما، وانسحاب ترامب من سوريا المعلن عنه مؤخرًا، بل أكثر من ذلك، ربما لا يعلم كثير من الأمريكيين وغيرهم اليوم أن مقولة “أمريكا أولًا”، لم يبتكرها الرئيس الأمريكي ترامب، بل بدأت للمرة الأولى قبل نحو 80 عامًا، وهي التي تتبناها الإدارة الأمريكية وأنصارها اليوم.
هل نقصف صيدنايا أم لا؟
يكشف المعرض عن مقدار المعلومات التي كانت متوفرة للأمريكيين في ذلك الوقت عن جرائم النازية بحق اليهود، ويسأل عن سبب عدم اعتبار إنقاذهم من الهولوكوست أولوية، باستثناء عدد قليل من الأفراد الذين خاطروا بالمساعدة.
استغرق الإعداد لمعرض الأمريكيين والهولوكوست خمس سنوات من البحث والتحضير، شاركت فيه الدكتورة بيكي، بحيث يقدم صورة للمجتمع الأمريكي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.
يفنّد هذا المعرض مفاهيم خاطئة عن تلك الفترة، كالقول إن الأمريكيين لم تكن لديهم معلومات كافية حول اضطهاد اليهود، ولماذا لم يصبح إنقاذهم أولوية بالنسبة للحكومة الأمريكية حتى عندما قدمت البلاد تضحيات كبيرة لهزيمة النازية.
خلال تجوالي في المعرض، انتقلت إلى تلك الحقبة، ومع كل صورة، ومعلومة، ومقولة قرأتها رأيت فيها ما يحدث اليوم تجاه سوريا والسوريين، وأدهشني كمّ التشابه بين الماضي والحاضر في السياسة الأمريكية تجاه المواضيع الإنسانية.
مع انتشار معلومات عن معسكر أوشفيتز وأفران حرق اليهود فيه إبان الحرب العالمية الثانية، بدأ نقاش حيال ما هو التصرف الأفضل تجاه هذه الجريمة المستمرة. هل نقصف معسكر الاعتقال النازي أم لا؟
خلال ربيع 1944، تلقى الحلفاء معلومات أكثر دقة عن القتل الجماعي بالغاز في أوشفيتز بيركيناو. قدّمت منظمات يهودية مقترحات مختلفة لوقف عملية الإبادة وإنقاذ يهود أوروبا المتبقين. دعا عدد قليل من القادة اليهود إلى قصف غرف الغاز في أوشفيتز، بينما عارضه آخرون. خشي حينها الحلفاء من قتل المعتقلين في ذلك المعسكر، وبالتالي تزويد البروباغاندا النازية بأدوات للتباكي على قصف سجناء في المعسكر.
هذا الجدل ذاته، انتشر بعد نشر الخارجية الأمريكية صورًا لمحرقة في سجن صيدنايا بسوريا، يستخدمها نظام الأسد لحرق جثث ضحاياه، لإخفاء جريمته، فهل يجب قصف المحرقة لوقفها، أم أن هذا سيشكل أداة للدعاية الأسدية أيضًا، وقد يخفي الأدلة على المرافق التي يستخدمها الأسد لإكمال أركان جريمته بإخفاء الجثث؟
المعتقلون دروع بشرية
عندما صرّح أوباما أنه سيعاقب نظام الأسد لاستخدامه الكيماوي عام 2013، تراكضت منظمات حقوقية لتحصل على معلومات عن أماكن وجود المعتقلين بدقة في ثكنات وأفرع مخابرات الأسد. كان من المتوقع أن يوجه أوباما ضربات جوية لهذه الأماكن. وربما يفقد المعتقلون فيها أرواحهم، وهو تمامًا أحد أسباب وضع نظام الأسد المعتقلين بأعداد كبيرة في مقراته المخابراتية، من هنغارات الطائرات في مطار المزة إلى القيادة العامة للمخابرات الجوية وغيرها. تراجع أوباما عن خطه الأحمر فيما بعد. يستخدم الأسد المعتقلين دروعًا بشرية لحماية مقراته، في انتهاك للقانون الدولي الإنساني الذي يحظر اسـتخدام “الدروع البشـرية”، وهو جريمة حرب، حيث يضع الأسد المعتقلين في مناطق تعتبر أهدافًا عسكرية مشروعة. على سبيل المثال تعرض مقر التحقيق للمخابرات الجوية في مطار المزة للقصف ودمرت بعض الجدران فوق المعتقلين هناك عام 2012. في أثناء اعتقالي في الفرقة الرابعة، كنا نسمع أصوات القصف فوقنا، وأحيانًا يهتز كامل البناء، ويتساقط الغبار من السقف على رؤوسنا. كم تمنينا حينها أن تسقط قذيفة علينا وتقتلنا لنتخلص من جحيم الاعتقال الذي كنا نعيشه.
كانت مسألة مشاركة الولايات المتحدة في أولمبياد برلين 1936 جدلية أيضًا حينها، فبعض الآراء كانت ضد المشاركة وأخرى لصالحها، حيث كانت الألعاب الأولمبية حينها ورقة سياسية استخدمتها ألمانيا النازية بقيادة هتلر لتبييض صفحتها، وهو تمامًا ما فعله بوتين عند استضافته كأس العالم، حين كان يدير هذه البطولة بيد، ويحرق السوريين باليد الأخرى. أعلن عدة قادة مقاطعتهم لحفل افتتاح البطولة، وحضر حفنة من المسؤولين الذين لا حول لهم أو من لديهم مصالح تفوقت على المواقف الإنسانية.
يضمّ المعرض أيضًا صور أغلفة صحف ومجلات صادرة في تلك الحقبة، وبعناوين رئيسية تدل على مدى انتشار أخبار الهولوكوست في أمريكا حينها، بالإضافة إلى الإشارة مثلًا إلى عدد النسخ الموزعة من الصحف ومدى انتشارها بين الناس لتوضيح مدى انتشار المعلومات والأخبار عن فظائع النازية والهولوكوست.
قد تكون المقارنة التاريخية أفضل السبل لفهم سياسات راهنة مفاجئة في وقتنا الحالي، كإعلان انسحاب الولايات المتحدة من سوريا مؤخرًا، وغيرها.