قبل أيام من إعلان الرئيس الأميركي عن الإنسحاب من سوريا، اشتكى الناطق باسم وزارة الدفاع الروسية من تجاهل البنتاغون الرد على رسائل وزير الدفاع الروسي حول سوريا ومعاهدة الصواريخ متوسطة المدى. في ظل التجاهل الأميركي المهين هذا، يمكن فهم الترحيب الشديد بإعلان الرئيس الأميركي بشأن الإنسحاب من سوريا، الذي عبرت عنه الناطقة باسم الخارجية الروسية. فقد علقت ماريا زاخاروفا فور انتشار نبأ الإعلان الأميركي بقولها “إنها قصة شديدة الأهمية، تلك التي تترتب على هذا القرار، هذا أفق حقيقي للتسوية السياسية”. كما أشارت زخاروفا إلى أن القرار الأميركي يسمح بالأمل في تحسن الوضع في منطقة التنف، “حيث يولد أمل بأن تسلك هذه المنطقة على الخريطة السورية الطريق الذي سلكته حلب والكثير غيرها من المدن والمواقع السورية، التي أخذت تعود إلى الحياة السلمية. لم يكن مثل هذا الأمل موجوداً، طالما كان يتواجد الأميركيون هناك”.
لكن البيان الرسمي لوزارة الخارجية، الذي نقلته وكالة تاس، كان اقل حماسة من اندفاعة ماريا زاخاروفا على قناة التلفزة الرسمية، حيث يقول البيان “لقد بدأوا يفهمون في الولايات المتحدة، أنهم يلعبون ضد أنفسهم، وهم يقاومون عمل “ترويكا أستانة”.
أما رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الإتحاد كونستانتين كوساتشيف، فقد كان أكثر حذراً في تعليقه، عبر الفايسبوك، على القرار الأميركي، كما نقلت صحيفة “NG”، إذ اعتبر ان الخطوة الأميركية قد تكون “مزدوجة القعر، إذ يمكن للأميركيين أن ينسحبوا، لكن يستمرون في العمل عبر الحلفاء، بمن فيهم الرسميون منهم والمشكوك بأمرهم”.
وفي مقالة لها بقلم نائب رئيس تحريرها، تتساءل صحيفة الكرملين “VZ” عن “من أجبر الأميركيين على الإنسحاب من سوريا”. وتقول الصحيفة، بأن إحدى أكثر عمليات التدخل صخباً في تاريخ الجيش الأميركي انتهت “بصورة غير مشرفة”. وتتساءل الصحيفة عن السبب في اتخاذ مثل هذا القرار في هذه اللحظة بالذات، وكيف يمكن لهذه الخطوة أن تترك تأثيرها على صفقة مبيع صواريخ S-400 إلى تركيا.
ورأت الصحيفة، أنه في كل مرة كان دونالد ترامب يقترح سحب القوات الأميركية من سوريا، تنفيذاً لوعده الإنتخابي، كانوا يقنعونه يتأجل الأمر، وذلك بحجة ضرورة أخذ موقف الولايات المتحدة بالحسبان “بشكل ما” لدى تحديد مستقبل سوريا، ومن أجل منع الروس من “أن يمسكوا بالوضع كلياً”. وحتى لو بقي الأميركيون في قاعدة التنف، فإن انسحابهم من المناطق الكردية يعني نهاية اللعبة السورية بالنسبة لواشنطن، والتي انتهت، في الحقيقة، منذ بدأت الحملة الروسية في سوريا العام 2015، حسب الصحيفة.
لكن مع ذلك، تتساءل الصحيفة لماذا انسحاب الأميركيين الآن؟ وهي ترى أن الولايات المتحدة لم تعد معنية بسوريا، لأن الرهان في اللعبة هو على الشرق الأوسط برمته وليس على سوريا وحدها. وتعتبر أن واشنطن تريد وقف تراجع نفوذها في المنطقة، والانسحاب من سوريا هو الأمر الأسهل والأقل ألماً، مما هو متاح القيام تقوم به حالياً، لأنه ليس لوجود ألفي جندي أميركي أي معنى عسكري وجيوبوليتيكي في سوريا العائدة إلى سلطة الأسد.
أما فيما يتعلق بالنتائج المترتبة على الإنسحاب الأميركي من سوريا، ترى الصحيفة أنه لم يعد من مبرر لقيام الأتراك “بعملية جد حاسمة” ضد الأكراد، لأن هؤلاء سوف يجدون أنفسهم مضطرين ليكونوا أكثر لياقة وحذراً في تعاملهم مع أنقرة، وسوف يكونون أكثر طواعية في المفاوضات مع دمشق، وأكثر انتباهاً لحجج روسيا.
بالنسبة لروسيا، ليست الآثار السورية الداخلية المترتبة على الإنسحاب الأميركي هي الأهم، بل الآثار التركية هي الأشد أهمية. وتتساءل الصحيفة، كيف سيتصرف إردوغان، وهل سيبدأ بلعب “الورقة الأميركية” ضد روسيا، كما حاول في العام 2015، إثر إسقاط الطائرة الروسية في حينها؟ لكنها ترى أنه، وعلى الرغم من عدم الثقة به المنتشرة وسط “خبراء التلفزة” الروس، إلا أنه ليس من اساس في الواقع للإشتباه بوجود “نوايا للغدر” لدى الرئيس التركي. والتناقضات الأميركية التركية لا تقف عند الموضوع السوري الكردي فحسب، كما أن العلاقات الروسية التركية هي ذات أهمية استراتيجية بالنسبة لإردوغان، حسب صحيفة الكرملين. لكنها لا تنفي في الوقت عينه إمكانية أن يقدم إردوغان الآن على خطوات إستعراضية حيال واشنطن، كأن يعمد إلى إلغاء الإتفاقية حول شراء صواريخ S-400، لكن “نهجه الإستراتيجي لن يتبدل”. وهي ترى أن تركيا تريد أن تصبح في عداد الدول العظمى في القرن الحادي والعشرين ويمكنها أن تصبح كذلك، لكن ذلك سوف يكون مستحيلاً ” من دون الشراكة الإستراتيجية الثابتة ومتعددة الجوانب ” مع روسيا.
لكن صحيفة “kommersant” المستقلة والمعروفة بنفوذها الواسع ترى أن قرار ترامب بالإنسحاب من سوريا “سوف يبقى، على الأرجح، عند مستوى الإعلان”. تقول الصحيفة على لسان معلقها للشؤون الدولية، بأن الأميركيين لن يخرجوا نهائياً من سوريا، بل قد يتعلق الأمر بسحب الألفي عسكري، الذين سبق أن أعلن البنتاغون عن وجودهم رسمياً هناك. ويقول هذا المعلق، بأنه لا يصدق أن رجال المخابرات الأميركيين والإختصاصيين في شؤون المنطقة ورجال البنتاغون سوف يقومون بتنفيذ أمر ترامب هذا “غير المتوقع براديكاليته”.
وتقول الصحيفة، أن البنتاغون يتحدث عن مهلة تتراوح بين 60 و100 يوماً لأتمام الإنسحاب، وهذه المهلة هي “مرحلة كاملة” بمقاييس الحرب السورية. لقد انسحب الأميركيون من العراق، لكن ذلك لم يمنعهم من العودة لاحقاً والمساهمة في استعادة الموصل من “الدولة الإسلامية”. وتشير الصحيفة إلى أن الدول العظمى، حين تتدخل في الحروب الإقليمية، فإن الأمر الأصعب في هذا التدخل هو الخروج من الحرب “مع حفظ ماء الوجه”، وهو ما لم تتمكن منه الولايات المتحدة حتى الآن في أفغانستان.
لكن الحروب، مهما طالت، ينبغي أن تنتهي في لحظة ما، فلننتظر، حسب الصحيفة، لنرى كيف ستخرج الولايات المتحدة فعلياً ونهائيا من الحرب السورية. وتتساءل الصحيفة ما إن كانت روسيا ستتمكن من الخروج “مرفوعة الرأس ” حين تحين لحظة الخروج من هذه الحرب، وهي لا بد آتية.