زيارة الرئيس السوداني عمر البشير دمشق هي أول خطوة تطبيع من رئيس دولة عربية مع رئيس النظام السوري، بشار الأسد، منذ بدء الثورة السورية. وهي بذلك تكسر طوق العزلة العربية والدولية، وتفتح الباب أمام بلدان أخرى لاستعادة العلاقات مع دمشق، على الرغم من الجرائم التي ارتكبها الأسد ضد الشعب السوري خلال أكثر من سبعة أعوام.
سيرة البشير ليست عطرة إلى حدٍّ يمكن أن نستغرب زيارته دمشق في هذا الوقت، فهو يمكن أن يفرّط بأي شيء إلا كرسي الحكم، ويقدم على أي فعل، طالما أنه يخدم بقاءه في السلطة. وتعودنا على ذلك من متابعة مساره الطويل على انقلاباته الكثيرة التي يحكمها هدف واحد، هو تجديد عمره في السلطة، فهو، منذ شارك في انقلاب عام 1989 ضد حكم ديمقراطي منتخب، ينتقل من طور إلى آخر على طريق تثبيت نفسه. ولذا أطاح أولا حليفه الذي هندس الانقلاب الشيخ حسن الترابي ونكّل به. وبعد ذلك صفّى رفاقه العسكريين الذين حملوه إلى كرسي الحكم وأكلهم قبل أن يأكلوه، واختلق حرب دارفور، حيث ارتكب نظامه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وفرّط بوحدة السودان كي يبقى في السلطة، لكنه لم يترك الجنوبيين يتفاهمون على بناء كيان خاص، بل عمل على افتعال الفتن بينهم وتغذية الحروب حتى أوصل الجنوب للاستنجاد به أكثر من مرة.
ولعب البشير عدة أوراق في الخارج. وفي زمن سابق، استضاف بعض فصائل المقاومة الفلسطينية، وفتح خطوطا مع إيران، وشارك أخيرا في عملية عاصفة الحزم التي أطلقتها السعودية في مارس/ آذار 2015، وأرسل قواتٍ كي تقاتل إلى جانب السعودية كي تحمي حدودها من هجمات الحوثيين، ودعم قوات الإمارات التي تقاتل على الساحل الغربي، وغالبية القوات التي أرسلها تتشكل من الجنجويد المتهمة بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور. ولا يوجد أي تفسير لإرسال البشير قوات للمشاركة في حرب اليمن سوى السمسرة والارتزاق، وهو بذلك يشتري ود أبوظبي والقاهرة والرياض، ويسهل الطريق لعلاقةٍ مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وسربت الصحف الإسرائيلية، قبل أسبوعين، أن رئيس البلد الأفريقي الثاني الذي سيزور إسرائيل، بعد رئيس تشاد إدريس ديبي، سيكون عمر البشير، وجاء كشف السر ليؤجل المسألة فقط، وهناك معلومات متداولة في أوساط مطلعة عن تبادل زيارات بين نتنياهو والبشير في الفترة المقبلة.
هناك من استخفّ بزيارة البشير إلى بشار، وتعامل معها باستهجان شديد، كون السودان بلدا خارج المعادلة والحسابات السورية، ولم يسبق له أن انخرط فيها، ثم إن رئيسه رجل مطلوب للقضاء الدولي. وعلى الرغم من هذه الاعتبارات، الزيارة على درجة عالية من الخطورة، وما أقدم عليه البشير، على ضآلة تأثيره في القضية السورية، مرشّح لأن يشكل سابقة، ويفتح الطريق لغيره، وهذا يكفي، فهو غير مطلوب منه أن ينتشل الأسد من وضعه المزري، فهذه مهمة لها من يتكفل بها في موسكو وطهران وتل أبيب والرياض، المطلوب من البشير أن يجعل من زيارة الأسد أمر عاديا في عيون الآخرين. ومن هنا، فإن ذهاب البشير إلى دمشق ليس نزوة من نزواته الكثيرة، وإنما جاء ضمن سياق سياسي، ومن يقف وراءه قام بدراسته جيدا.
وربما استغرب بعضهم أن تكون هناك صلة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان وزيارة البشير المفاجئة إلى دمشق، لكن التطورات في الوضع العربي باتت مرشّحة لكثير من هذا النمط من الانتكاسات والمهازل، منذ أن أصبحت الرياض وأبوظبي تقودان القاطرة السياسية.