منصور العمري
تقدم الأمم المتحدة بمختلف وكالاتها داخل سوريا، عملًا إنسانيًا كبيرًا لملايين المدنيين، وتلعب دورًا مهمًا في دعم ضحايا الحرب في سوريا وخاصة أولئك الأكثر تأثرًا وضعفًا، في إطار تنفيذها لمهامها الجوهرية في صون السلم والأمن الدوليين، وتعزيز التنمية المستدامة، وحماية حقوق الإنسان، واحترام القانون الدولي، وإيصال الإغاثة الإنسانية.
لكن عدة مسائل تطال عمل الأمم المتحدة ككل في سوريا، تصل إلى حد اتهامها بالتواطؤ في جرائم الحرب، ودعم أحد أطراف الحرب، استنادًا إلى وثائق وشهادات أشخاص ذوي مصداقية. ينطوي هذا التناقض على عدة مخاطر من بينها، فقدان الثقة في هذه المؤسسة العريقة والنظر إليها كأداة سياسية. قد تردّ الأمم المتحدة صحفيًا على هذه الاتهامات بين الحين والآخر، لكن هل اتخذت خطوات فعلية للوقوف على أسباب هذه المشاكل والاتهامات، ومحاولة تحسين أدائها الذي قد يتعارض أحيانًا مع جوهر وجودها؟
قبل سنتين، كتبتُ مقالًا تحدثت فيه عن ضرورة التغطية الصحفية لأعمال الأمم المتحدة في سوريا، لما يشوبها من غموض وفضائح من حين لآخر، بعنوان صارخ: “الأمم المتحدة تنظف قمامة الأسد وتتجاهل أمسّ حاجات ضحاياه“.
كانت ردود معظم العاملين في الإعلام السوري في شرح عدم تغطيتهم لعمل الأمم المتحدة في سوريا، بأنه من غير المسموح لهم بالتغطية في مناطق عمل الأمم المتحدة خوفًا من نظام الأسد، لأنها تعمل فقط في مناطق سيطرة الأسد، أو أن وكالات الأمم المتحدة لا تستجيب للأسئلة الصحفية.
تراوحت الاتهامات لهذه المؤسسة، من تلقي رجال أعمال يدعمون النظام السوري وتخضع شركاتهم لعقوبات أمريكية وأوروبية، دعمًا ماليًا من الأمم المتحدة، إلى استفادة مؤسسات حكومية وعسكرية سورية من دعم وكالات الأمم المتحدة، بالإضافة لمنظمات “خيرية” تابعة لأسماء الأسد زوجة بشار الأسد، وابن خالته رامي مخلوف، إلى اتهامها بالتواطؤ في جرائم حرب، حيث اتهمت الموظفة الأممية السابقة آن سبارو منظمة الصحة العالمية والوكالات الدولية الأخرى بمساعدة الأسد في حربه ضد المدنيين السوريين، والتواطؤ في جرائم الحرب من خلال التزام الصمت حيال تدمير الحكومة قطاع الرعاية الصحية.
وصل الأمر فيما بعد إلى أن تطلق منظمة “حملة سوريا الدولية” مع 66 منظمة سورية تقريرًا ونداء إلى الأمم المتحدة بالتوقف عن دعم طرف على حساب طرف آخر، واتهمتها بفقدان النزاهة والاستقلال والحياد في سوريا.
اليوم، فضيحة أخرى تطال عمل الأمم المتحدة في سوريا. منذ أيام كشف تحقيق نشره موقع درج بعنوان: “قروض (أونروا) في سوريا في خدمة عناصر ميليشيات النظام“، عن تورط الأونروا، في تمويل أشخاص وجهات مشاركة بالمعركة في سوريا لصالح بشار الأسد، بالإضافة إلى مؤسسات سورية ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية مثل الأمن السياسي والمخابرات العامة.
منذ أيام راسلتُ الوكالة ذاتها مستفسرًا بشأن جهودها في مخيمين محددين للنازحين شمال سوريا هما مخيما دير بلوط والمحمدية، وطرحت أسئلة تفصيلية:
هل قدمت الأونروا أي مساعدات إلى أولئك الموجودين في مخيمي دير بلوط والمحمدية؟ وإذا كان الجواب لا، فما سبب عدم القيام بذلك؟
هل لدى الأونروا خطط لتزويدهم بالمساعدات في المستقبل القريب، مع وصول الشتاء بالفعل وهم في حاجة ماسة للتدفئة، والمطر يحوّل المخيمات إلى برك طينية؟
أجاب السيد سامي مشعشع الناطق الرسمي لوكالة الأونروا:
“لا تتوفر حاليًا لفرق الأمم المتحدة، التي تتخذ من سوريا مقرًا لها بما فيها الأونروا، إمكانية الوصول إلى إدلب والمناطق المحيطة بها. وتقوم رئاسة الأونروا في عمان بالتواصل مع الشركاء الذين يستطيعون الوصول إلى مراقبة وضع اللاجئين الفلسطينيين في المنطقة للتأكد من أن اللاجئين الفلسطينيين مدرجون في البرامج الحالية ويتم تقديم المساعدة لهم في إطار عملية المساعدة عبر الحدود التي تتم من تركيا”.
أي أن الأونروا لم تقدم أي مساعدة لهؤلاء حتى ساعة رد الوكالة في 5 ديسمبر/كانون الأول 2018، لكنها تبذل جهودًا للوصول إليهم. لم تخلُ الإجابة من العمومية.
يبدو أن الأمم المتحدة بمختلف مكاتبها تدور في فلك مقولة تاريخية لأحد مسؤوليها الكبار.
نقل الصحفي البريطاني بيتر غيل في كتابه “اليوم نرمي القنابل وغدًا نبني الجسور”، تفسير مسؤول رفيع في الأمم المتحدة لعدم دعمها للسوريين في المناطق خارج سيطرة الأسد: “لا نستطيع مساعدة الموجودين في المناطق (المحررة)، وذلك لوجود كوادرنا في دمشق، فلو ساعدنا الناس في تلك المناطق، سيواجه كوادرنا مصاعب حقيقية”، مفسرًا سبب عدم مساعدة الأمم المتحدة لأولئك الذين يعانون، لخوفها على موظفيها من الانتقام من حكومة الأسد “الشرعية”.
يحمل هذا التصريح تناقضًا صارخًا مع توصيات الأمم المتحدة في تقريرها الأخير بشأن سوريا في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، تحت اسم: إخطارات الوفاة في الجمهورية العربية السورية، الذي تحدث عن ضرورة تفسير مصير المحتجزين والمفقودين.
تكمن المفارقة في أن الأمم المتحدة تعي تمامًا خطورة النظام السوري، وتخشى حتى على كوادرها منه، إن قدمت أي عمل إنساني بلا موافقته وتدخله، حسب تصريح أحد مسؤوليها، وفي الوقت ذاته تطالبه بـ “تقديم تبرير قانوني” لاستمرار احتجاز المعتقلين، وهو ما يفعله النظام مسبقًا حيث يصدر شهادات وفاة المعتقلين تحت التعذيب، ويصدر تقارير طبية مصدقة من نقابة الأطباء والمشافي الرسمية بأسباب الوفاة. فما الذي تطلبه الأمم المتحدة فعلًا؟ أم أن هذه التوصيات هي “كليشه” تستخدمها الأمم المتحدة في نهاية تقاريرها، أم أن كواردها في سوريا لا ترسل لها تقارير مفصلة عن الوضع في سوريا؟
هناك عدة أسباب محتملة لهذا التناقض غير المنطقي، أخطرها قد يكون تواطؤًا صريحًا مع النظام السوري، وأبسطها بيروقراطية أممية تصل إلى حد تشويه الحقائق بانفصال عن الواقع، بما يدعم هدر حقوق الضحايا وتوجيه مطالبات فات أوانها.
كأن تطلب الأمم المتحدة شرطيًا إحالة ملف سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية: “إذا لم تكن الدول السورية مستعدة لمساءلة الجناة أو غير قادرة على ذلك، فينبغي أن يقوم مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بإحالة الموضوع إلى المحكمة الجنائية الدولية”. وكأنّ مقدم التوصيات موظف جديد في الأمم المتحدة، وليس لديه علم بفشل جميع محاولات إحالة الملف، بسبب الفيتو الروسي والصيني لسنوات عديدة، خاصة مع عدم وجود مؤشرات على تراجع روسيا عن استخدام الفيتو لحماية الأسد، بل على العكس تدل الممارسات على دعم متصاعد ووثيق.
ثم تطلب التوصيات تمويل هيئات في سوريا تعلم أن نظام الأسد لن يقبل إلا بالإشراف عليها والتحكم فيها في أحسن الأحوال، حسب خبرتها في العمل بسوريا، “ينبغي إنشاء آلية وطنية للتعويضات في الجمهورية العربية السورية لتقييم الضرر الواقع وتلقي الشكاوى وتوفير التعويضات الفردية أو المجتمعية الملائمة وغير ذلك من وسائل الإنصاف الملائمة سواء كانت مالية أو في أي شكل آخر”.
قد تكون هذه الآلية مؤسسة حكومية تتبع لنظام الأسد، وتضاف إلى انحرافات الأمم المتحدة المستقبلية. لا بد للأمم المتحدة من بذل جهود أكبر لتوضيح إمكانياتها والعقبات التي تقف في طريقها، ومحاولة إصلاحها، فالأبراج العاجية لم تعد تحمي أصحابها في عصر الإعلام المفتوح.