يصعب الركون لما أعلنه مؤخراً اجتماع نيويورك للجنة المصغرة حول الشأن السوري، من عدم رضا البيت الأبيض عن تفرد قيادة الكرملين بتقرير مصير سوريا، ورفضه ما يعدّها مماطلة روسية لوأد اللجنة الدستورية والالتفاف على هدف الانتقال السياسي، ما دامت واشنطن قد وضعت عملياً الملف السوري في عهدة موسكو. مثلما يصعب الاطمئنان لإشارات أميركية تؤكد الرغبة في تعزيز وجودها العسكري في البلاد وإقامة نقاط مراقبة للجم الاندفاعات التركية، أمام إشارات مناقضة حول تحسبها من مد المعارضة و«قوات سوريا الديمقراطية» بالدعم اللازم، وتكرار تلميحاتها حول عدم الحاجة لبقاء قواتها في شرق سوريا، والتنسيق مع حكومة أنقرة لضبط الأمن ومحاصرة تمدد القوات الكردية، وتبقى حاضرة المفارقة الشهيرة في تحول المطالبة الأميركية برحيل النظام وتحذيره من عقاب شامل إن لجأ للأسلحة المحرمة، إلى تفهم لاستمرار رموزه القائمة والاكتفاء بقصف مواقع هامشية بعد استخدامه، ولمرات، السلاح الكيماوي.
ومع أن واشنطن لم تكلف نفسها عناء إيضاح أسباب ما تتخذه من مواقف في مسار الصراع السوري، وصلت أحياناً إلى حد التناقض، إنْ من النظام أو من المعارضة أو من الدور الأممي، فإن ثمة معالم ومحددات عامة يمكنها تفسير طابع السياسة الأميركية تجاه سوريا، وتالياً تفهم أسباب سلبيتها وترددها وما يكتنفها من تباين، والأهم دوافع إهمالها الوزن والدور الكبيرين اللذين تمتلكهما، بصفتها قوة عظمى، في حفز ديناميكية التأثير والعلاقة بين التطورات الداخلية والعوامل الخارجية.
ربما لا يجانب الصواب من يقرن الأمر بتراجع الدور الأميركي عموماً وفقدانه كثيراً من حيويته الخارجية بسبب ما عاناه في العراق وأفغانستان، وبسبب تفاقم أزمته الاقتصادية والتفاته لمشكلاته الداخلية، مما يفسر تبدل النزعة الهجومية التدخلية نحو الإحجام والسلبية، أو الاقتصار على ما تسمى «القيادة من الخلف» واللجوء لاستخدام القوة الناعمة والضغط المرن من دون أن يصل الأمر إلى تورط يتطلب جهداً وتكلفة، فكيف الحال مع بلد يحتل موقعاً ثانوياً في سلم اهتمامات واشنطن، كما أنه غير مدرج ضمن أوليات أهدافها وترتبط أزمته بعدد من الملفات الإقليمية الحساسة والخطيرة، ويرجح أن تكون تبعات وأثمان التدخل الناجع فيه باهظة ويصعب تعويضها من دولة فقيرة في ثرواتها مثل سوريا؟!
وأيضاً لا يجانب الصواب من ينظر إلى الأمر من قناة المرامي والحسابات الأميركية في استثمار الصراع السوري لاستنزاف خصومها، مثل روسيا وإيران وتركيا، لإنهاك الدول الثلاث مادياً وسياسياً، والحد من طموحاتها الإقليمية ونهجها التوسعي، والأهم لتوظيف الوجود العسكري في شرق البلاد وسيلةً لقطع طريق التواصل البري بين دول ما سمي «الهلال الشيعي» بما يحاصر التمدد الإيراني ويضعف محاولاته بناء تمركزات استراتيجية في العراق وسوريا ولبنان.
كما يصيب من يقرن تلك السياسة بالمصلحة الأميركية المزمنة والعميقة في اغتنام الساحة السورية لتصفية الحساب مع تنظيم «القاعدة» والنيل من قادته وكوادره، ربطاً بوقائع تزداد وضوحاً مع كل يوم يمر عن تحول المحنة السورية إلى بؤرة جاذبة لعناصر وقوى إسلاموية متطرفة، توافدت من مختلف البلدان، لحسم ما تعدّها معركة مصيرية على وجودها ومشروعها بإقامة «دولة الخلافة»؛ الأمر الذي وفّر، ويوفر، فرصة ثمينة لتوجيه ضربات مهمة لهذه العناصر والجماعات تضعفها وتحد من قدرتها على النمو والتطور، تحدوها حقيقة أن تصفية هذه الكوادر النوعية تلحق ضرراً كبيراً بإمكاناتها العملية على تجديد قدراتها، وتفقدها كفاءات مجربة يصعب تعويضها باندفاعات شبابية متهورة وعديمة الخبرة، من دون أن نغفل الإفادة من المعركة ضد «الإرهاب الإسلاموي» في تعميق شروخ العلاقة الموضوعية بين جماعات الإسلام السياسي والتيارات المتطرفة، خصوصاً أن بعض مراكز صنع القرار الأميركي قد خلصت، وإنْ متأخرة، إلى نتيجة تقول بقوة الترابط العقائدي بين هذه الجماعات على اختلاف أساليبها، وإن كلاً منها يغذي الآخر، وخير دليل سرعة مبايعة أطراف سياسية إسلامية «دولة الخلافة» بمجرد أن أعلنت في العراق وسوريا، ناهيك بانكشاف حقيقة تزامن صعود التطرف الديني مع انتصار الثورة الإسلامية في طهران، وما رشح من معلومات عن تواصل ملغوم بين أجهزة أمنية إيرانية وبعض قادة وكوادر «القاعدة» في أفغانستان والبلدان العربية.
وأخيراً لا يخطئ من يعتقد أن لإسرائيل كلمة قوية في رسم السياسة الأميركية تجاه مستقبل الأوضاع في بلد يجاورها وتحتل جزءاً من أرضه، والمغزى هو أولوية ما يمكن أن يترتب على أي تغيير أو تطور في سوريا على أمن إسرائيل بصفته العامل رقم واحد في التأثير على مواقف الغرب، خصوصاً على النخبة الأميركية الحاكمة وعلى اتجاهات الرأي العام هناك، مما يعني أن أي موقف أميركي تجاه سوريا لا يمكنه القفز فوق هموم وحسابات حليفته الاستراتيجية أو تجاوز تحسبها وقلقها من طابع البديل المقبل في حال كان وزن وتأثير الإسلاميين فيه كبيراً، وتالياً حرصها على استمرار النظام السوري القائم، الذي خبرته وحافظ على جبهة الجولان آمنة ومستقرة طيلة عقود، حتى لو أعلن بعض مسؤوليها عكس ذلك!
صحيح أنه ما لم تتخذ أميركا موقفاً حاسماً من الحدث السوري، فلن يحدث أي تحول نوعي، استناداً إلى تجارب مقاربة، وإلى ما تملكه الولايات المتحدة من قوة نافذة؛ سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، تضعها في موقع اللاعب الأول وأحياناً المقرر لمصير كثير من الصراعات الوطنية والأزمات الإقليمية، ولكن الصحيح أيضاً أن الدور الأميركي لا تحكمه الرغبات والأمنيات؛ بل يستند إلى المصالح وموازين القوى وضغط الرأي العام.
وهنا ثمة عمل ينتظر الطامحين لتفعيل الجهود الدولية، خصوصاً الأميركية، لتخفيف المأساة السورية، أحد أهم وجوهه المثابرة على تحويل ما يتراكم من تعاطف إنساني مع معاناة السوريين وما يكمن دونه، إلى وسيلة ضاغطة على صناع القرار في الغرب عموماً وأميركا خصوصاً، في رهان على مجتمعات تشاطرنا الهموم والقيم الإنسانية، ولها قدرة انتخابية في اختيار حكامها وإجبارهم على تغيير سياساتهم؛ مجتمعات لعبت دوراً مهماً، وأحياناً حاسماً، في نصرة شعوب الجزائر وفيتنام وجنوب أفريقيا والبوسنة، وتمكينها من تقرير مصيرها.