جريدة عنب بلدي – العدد 26 – الأحد – 29-7-2012
لم تقتصر ثورة الكرامة السورية على بُعدها السياسي فحسب، بل كثيرًا ما بتنا نسمع عبارات من قبيل «ثورة واحدة لا تكفي» والهدف هو التركيز على كافة الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية لثورتنا، علّ ثورتنا تكون ترياقًا يداوي جراح
الملتاعين، وتتحول إلى ثورة شاملة تعصف بكل ما علق في أذهاننا من أوهام، وبكل ما اعترانا من ظلم وجور.
تُظهر الدلائل والواقع السوري أن النظام نجح وبجدارة في تفتيت طاقات الشعب، وذلك من خلال الحفاظ على وجود طبقي متعمّد (طبقة عليا، وطبقة دنيا).
تشمل (الطبقة العليا) جماعة البدلات الرسمية، والتي تتولى إدارة المشاريع الكبرى ذات الفوائد العائدة إلى جيوب النظام وأعوان، وتُقام على شرفها المؤتمرات، فهي صاحبة الامتيازات المطلقة، والعلاقات الدولية الواسعة، لترويج مقاييس مزيفة عن مستويات التطور والتقدم في سوريا على المستوى الدولي، والتي لا تعدو في الواقع عن كونها أدوات بأيدي النظام الجائر، تخدم طموحاته، وتُنتج له الأفكار التي من شأنها أن تضمن له الاستمرار في الحكم، وهي ما أُطلق عليها الصفوة، تلك الطبقة التي لم تعرف للجوع طعمًا، ولم تضئ للصبر شمعة، ولم ينسج الألم في قصورها بيتًا، تلك الطبقة التي أنجبت معالم الحضارة السورية المادية (تحف نادرة، عملات خيالية، مواد وآليات باهظة الثمن، أسواق مفتوحة) وغيرها الكثير.
لكن لم تحمل هذه الطبقة يومًا لهذا البلد حقيبةً طبيةً لمريض لم يستطع أن يشتري وصفة الطبيب التي استوردتها تلك الطبقة من الخارج، وتناست أن تجلب معها هدايا لأطفال لا يعرفون للعيد فرحة، فلم تنجب أي معالم إنسانية، ولم تمسح دمعة أو تداوي جرحًا، لم تنتج فكرًا حرًا، فقد كانت القوة زادها، والمال مقودها، ومع هذا فعندما يدرك النظام المستغل عدم صلاحيتها في تحقيق أهدافه الاستعمارية ضد الشعب، يرمى بها في براثن الاتهام من خيانة وإرهاب وغيرها.
بينما الطبقة الأخرى فهي ما أطلق عليها (الطبقة الدنيا)، وشتّان بين المصطلح الشائع وبين خصائص وصفات هذه الطبقة، والتي تتجلى في الجباه السمر التي اعتادت العمل تحت حر الشمس وفي ظروف البرد القارص، دون أي ضمانات أو تأمينات، طبقة الكادحين، التي عانت بسبب غياب العدالة الاجتماعية، أشد أنواع الظلم والتمييز والحرمان والكبت، من تهجير وتنكيل وملاحقة، والعمل على إقصاء دورها في المشاركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والعمل على تخلفها وفقرها بهدف إشغالها بتحصيل لوازم الحياة الضرورية، وصرفها عن أي تفكير من شأنه أن يساهم في تطورها لمعرفة حقوقها وبالتالي المطالبة بها، وإغراقها بالضرائب، وتحويلها إلى طبقة مستهلكة أكثر من كونها منتجة.
فلم تكن تلك النقابات والأحزاب والجمعيات الأهلية والخيرية التي أُطّرت بها تلك الطبقات سياسيًا وفكريًا إلا مرايا للنظام، وأرجوحة للشعب، يمنح امتيازات لطائفة على حساب أخرى، ليمتّن أواصر الشرخ ويرسّخ قواعده بين أفراد الشعب، كذلك لا يخفى على أحد تلك الأساليب المزيّفة التي استخدمها في حصر الطبقة الدنيا في فكر معين مستغلًّا الارتباط الديني القوي لهذه الطبقة، وثقتها برجال الدين الذين تخلّوا عن رسالة الله، فضلوا عن طريق الحق وأضلوا الشعب معهم، من خلال ألعوبة الإيمان بالقضاء والقدر والرضا والرضوخ للأمر الواقع، وأن هذا ما أراده الله لهم، وسيبدلهم بالجنة إن هم صبروا على الظلم دون أن يطالبوا بحقوقهم، والالتزام بالعادات والتقاليد البالية التي ترفض أي توجه دنيوي علمي حضاري، وتحارب كل من يسير في طريق الديناميك المتحرك الباعث على التقدم والثورة والتمرد والعصيان المدني الحر.
مزيدًا من ترسيخ الشرخ الاجتماعي:
ولا يقف الأمر عند هذا الحد وإنما عمد النظام إلى توريث هذا الوضع المرير جيلاً بعد جيل، فقد حول المدارس إلى سجون فكرية، مهمتها حشو الدماغ السوري بشعارات وهمية تمجّد النظام وتتغنّى ببطولاته، وتكرّس الانتماء والتقليد الأعمى لنظام الأسد الإرهابي المنظم، والعمل على إكسابه العادات والتقاليد التي تحمل في جوفها معاني التخلف والتبعية والتسليم بالأمر الواقع والاستكانة لما هو حادث، وتعليق الأمور وتفسيرها بأفكار من طبيعة أخرى مختلفة تمامًا عنها، بغية تحويرها عن معرفة حقيقتها والوقوف على تغييرها، وبقاء أبناء هذه الطبقة على هامش الحياة دون أن يكون لهم أي دور فاعل، بهدر طاقات الشباب وقدراتهم، وتغييب الوعي الذاتي، وإبعاد الحس الجماعي لدى الشعب، وهدم كل المحاولات التي تعمل على بناء مشاريع تعاونية شعبية وحدوية لمساعدة الفقراء وذوي الدخل المحدود، فقد فاق حجم الظلم لهذه الطبقة ولأبنائها حجم الصادرات وحجم الواردات لهذا البلد.
على قلب رجل واحد:
إن هذا الشرخ الاجتماعي الذي أحدثه النظام في نسيج الطبقات الاجتماعية السورية، قد أفرز وعيًا اجتماعيًا مختلفًا عما كان سائدًا في مرحلة ما قبل الثورة، فقد أدرك الشباب السوري أن هذه المشكلات المفعمة التي يعانون منها، لم تأت بسبب الحظ البائس أو القدر المشؤوم، وإنما هو بفعل سياسات استراتيجية ممنهجة متعمّدة من قبل النظام المستبد لإبقاء الشعب السوري المؤمن بمبادئ الحرية والعدالة في حالة تبعية وتخلف.
والسؤال الذي يطرح نفسه هل ستسهم الثورة في حل مشكلات الشعب، أم أنها ستكرّس تلك المشكلات وتزيد من تأثيرها على حياة الناس؟ وهل سيتمكن الشعب من إعادة بناء نسيجه الاجتماعي من جديد على أسس التغيير لصالحه من خلال كشف الأقنعة، والعمل على طرح البدائل الممكنة من إعادة اللحمة وتعزيزها ليقف الغني مع الفقير، والمثقف مع الأمي، والصحيح مع ذوي الحاجات الخاصة، والعسكري مع المدني، ورجل الدين مع العلماني، والقوي مع الضعيف، والرجل مع المرأة، والمسلم مع المسيحي، ويصبح كل أفراد الشعب على قلب رجل واحد، الكل يساعد ويساهم ويدرك أن المشكلة لن تُحل إلا بمشاركة جماعية، كل يقدّم فيها حسب قدرته، فهنا يدٌ تداوي الجرحى، وأخرى تجمع التبرعات لدعم المظاهرات الهاتفة بالحرية، ويدٌ تضيء الطريق لتهريب الشباب الثائر من أيدي الخونة، وهناك أكف تحمل شهداء الثورة لتشيّعهم، وترافقها حناجر تصدح بالتكبير وبأعذب التراتيل لتقوّي عزيمة الأحرار، وهنا يدٌ تقرع أجراس بيوت المعتقلين والشهداء لتدعم ذويهم، وهناك يدٌ تكتب للثورة أمجادها، وفئات أخرى تضع أياديها بأيادي بعضها لتشكّل جمعيات أهلية ونواة لأحزاب خرجت إلى النور، لمعت في سماء الوطن، لتكون نجماً ودليلاً لعمل ٍجديد، سيحفظ لنا كفاحنا المستمر ضد الطغيان.
من وحي الثورة:
شكراً للثورة التي أعادت الشعب إلى لحمته وعلاقاته الاجتماعية القوية القائمة على التسامح والمساندة والعمل الجماعي، والتي حاولت ردم ذاك الشرخ، وعمدت إلى تصحيح مسار الواقع الاجتماعي القاسي المفروض على الشعب، والذي نأمل أن يتغير نحو الأفضل بفضل جهود الشباب الحر الذي كان واعياً لهذه المتغيرات، فثورته خرجت من رحم الواقع الاجتماعي القاسي، لتعيد تشكيل البنية الاجتماعية بما يحقق أكبر مشاركة لأطياف وفئات المجتمع من أطفال ومراهقين وشباب ورجال وكبار سن ونساء وبمختلف الانتماءات الدينية والسياسية والفكرية، ليضع كل لبنة في بناء صرح الوطن الجديد، فيقف صامدًا في وجه كل ريح تحاول أن تهوي بجزء منه، أو تعبث بتماسكه الاجتماعي فتشجع على أن يخرّ سقفه فوق رؤوس أبنائه.