إبراهيم العلوش
تخيّل نفسك في الصباح وأنت في دورة المياه، وفجأة يتم إغلاق بابها عليك، وعليك أن تبقى طوال النهار والليل، وربما حتى نهاية عطلة الأسبوع وحيدًا فيها!
تخيّل نفسك وأنت في مكتب عملك في اليوم الأخير من أسبوع العمل، وعندما تحمل حقيبتك للخروج، تجد أن أبواب المكتب مغلقة والكهرباء مفصولة، وعليك أن تنتظر أحدًا يفتح لك!
تخيّل نفسك وأنت في القبو تتفقد مخزونات بيتك ومؤونته، فيغلق عليك باب الحديد، وتظل وحيدًا، ولا تستطيع الاستنجاد بأحد، لأن إشارة الهاتف لا تصل إلى قبوك!
تخيّل نفسك في المصعد الذي تعطل فجأة، وبقيت وحيدًا بلا أمل لإخراجك قبل انقضاء العطلة التي ذهب فيها زملاؤك وأصدقاؤك لقضاء أيام إجازة مع عائلاتهم!
تخيّل نفسك مارًا على أحد الجواجز، واصطحبوك إلى فرع من فروع الموت، ولا أحد من أهلك أو من معارفك يعرف عن مكانك شيئًا!
تخيّل نفسك وأنت في المطار، وتجهز ابتسامتك من أجل عائلتك، ومن أجل أصدقائك المنتظرين على بعد أمتار، وبعد أن تعبر آخر نقطة تفتيش، يقترب منك موظف بلباقة، ويستجرك إلى ممر جانبي ينتهي بعد دقيقة أو اثنتين إلى قبو مليء بالظلام وبالبرودة، ويتحول اسمك أو لقبك من “أبو فلان” إلى “خرا الكلب”، ويتحول اسم ربك من “الله” سبحانه وتعالى، إلى بشار الأسد!
تخيّل نفسك في جلسة أمام مكتب التحقيق ووجه المحقق الذي ينظر إليك باحتقار، وأنت محني الرأس، ومعصوب العينين، ولا تعرف اللحظة التي تنالك فيها ركلة، أو صفعة، وعليك أن توقّع على أوراق لم تستطع قراءتها، وعليك تجربة كرسي لم تره من قبل، هو الكرسي الألماني، الذي قد يتسبب بكسر عمودك الفقري أمام صور “السيد الرئيس” المبتسم والمستمتع بتعذيبك!
تخيّل نفسك وأنت تشعر بالعزاء لأنك سجنت في دورة المياه، وتستطيع أن تقضي حاجتك فيها، بدلًا من أن تقضيها في زاوية المصعد، أو في زاوية غرفة القبو، أو أن تنهال عليك المسبات، وضربات خرطوم الصحية الأخضر، والمسمى الأخضر الإبراهيمي، الذي ينال من جلدك، ويفقدك القدرة على التبول، أو التبرز من شدة الضرب وعشوائيته!
تخيّل نفسك مسافرًا في باص، ودفعت كل ما تبقى معك من أجل الوصول إلى بلدتك البعيدة، ويتوقف الباص فجأة أمام حاجز، ويطيل وقوفه، وينادونك أخيرًا من بين الركاب، ويسمحون للباص بالذهاب، وتقف وسط الفراغ، والبرد، والمجهول، وتنتبه للكمة الشيخ حامل البندقية الروسية، والذي يزين وحشيته بآيات من القرآن، ويبرهن كذبًا وادعاءً بأنه يهينك وهو مرتاح الضمير، وسيدخل الجنة على رباطه المزعوم، ويأمرك بقول رأيك بالبغدادي (خليفة المسلمين!) من اسطنبول إلى الفيلبين، ناهيك عن رعاياه المختبئين في “البلدان الكافرة” يأكلون، ويشربون، ويركبون السيارات، وهم يخفون حقدهم وقنابلهم بانتظار يوم موعود!
تخيّل أنك تمشي في الشارع حافيًا، وثيابك ممزقة، ولكنك تشعر بالفرح والسعادة، فقد أطلقوا سراحك من فرع التحقيق العسكري، فأنت سعيد رغم أنهم قد عذبوك، ونهبوا حتى حذائك!
تخيّل نفسك وأنت تخرج إلى فسحة السجن، وأنت منكّس الرأس، ولا يحق لك أبدًا النظر إلى السماء طوال سنين عديدة، وفي حال اردت أن تطابق ذكرياتك وإحساسك مع السماء التي تعتقد بأنها لا تزال موجودة، فعليك أن تدفع ألفي ليرة سورية، في زمن كان الدولار فيه يعادل 25 ليرة سورية!
تخيّل نفسك وأنت تخرج إلى العالم بعد خمسة عشر عامًا من الاعتقال، فلا تعرف الطريق إلى بيت أهلك، وتقف في إحدى الزوايا علّ أحدًا ما يمر ويعرفك، أو تعرفه، ويصطحبك إلى البيت لتفاجِئ أمك التي ماتت، وزوجتك التي يئست منك، وأولادك الذين لم يعودوا يتذكرون منك إلا اسمك!
تخيّل أن ربع مليون سوري اليوم على هذه الحال أو أسوأ، تخيّل أن المرصد السوري لحقوق الإنسان قدر عدد المقتولين تحت التعذيب بمئة وأربعة آلاف إنسان، رغم أنه لم يستطع معرفة الأسماء الفعلية إلا لقرابة سبعة عشر ألفًا منهم!
تخيّل صورتك أو صورة ابنك ضمن مجموعة صور قيصر الخمسين ألفًا، والتي وثّقها في قيادة الشرطة العسكرية، للمعتقلين المقتولين بأيدي شبيحة الأسد!
تخيّل عظامك في المحرقة الإيرانية المركّبة في سجن صيدنايا، والتي رصدتها منظمة “أمنستي انترناشنال” للتخلص من بقايا عظام وجلود المعتقلين، الذين أحلّ ملالي إيران قتلهم لنصرة بشار الأسد!
تخيّل ولو لمرة واحدة، وتفكّر بأوضاع المعتقلين، وبأهاليهم وبأطفالهم، تخيّل ولو لمرة واحدة قيمة الحرية التي تعذّب كل هؤلاء من أجلها.. تخيّل معتقلينا، ومخطوفينا، وحالتهم عند النظام، وعند داعش، وعند النصرة، وعند أجزاء الدول الأخرى… تخيّل لزُوجة بحر الدماء وكثافة الصياح والاستنجاد والألم…!
تخيّل أن كل هؤلاء صاروا أحرارًا، وتخلصوا من التعذيب، وتمّ تعويض أهالي شهداء التعذيب ومواساتهم.
تخيّل أن تكون سوريا بلا تعذيب، وبلا خطف، وبلا اعتقال.. تخيّل ولو لمرة واحدة أن نعيش أحرارًا كما ولدتنا أمهاتنا.