عنب بلدي – خلود حلمي
في تقديمه لفيلم القربان، يقول إياد الجرود،” كي لا نترك لسياسة مسيطرة أو قاتل منتصر أن يروي قصتنا ويكتب تاريخنا، كان هذا الفيلم. اليوم أُسقِطُ عني عبئًا آخر كنت قد اخترتُ حملَه وادعيت أمانتي به… عبء الموت وعبء الرسالة.. رسالة لمن أَضل السبيل… أحملها بقداسة أب وأم حملا نعش ولدهما ليقدمانه قربانًا للحقيقة والحرية…”.
نجح المخرج السوري إياد الجرود بالوصول إلى العالمية من خلال العرض العالمي الأول لفيلمه الثاني “القربان” في مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (IDFA)، الذي يعتبر المهرجان الأكبر للأفلام الوثائقية في أوروبا وهو يوازي مهرجان “سندانس” في أمريكا. الفيلم من إنتاج عام 2018 واستغرق ثلاث سنوات من التصوير وسنتين للإنتاج.
حصل المخرج على منحتين فنيتين من منظمة “بدايات” ومن “المعهد الثقافي البريطاني- شباك: نافذة على الثقافة العربية المعاصرة” لإنجاز الفيلم بميزانية منخفضة ولكن بشروط إنتاجية عالية حسب تعبير الجرود.
وخلال المهرجان، نجح فيلم القربان باستقطاب عدد كبير من الحضور خلال العروض الخمسة، التي تلتها مناقشة استمرت في كثير من المرات لأكثر من ساعة حاول فيها الجمهور رسم صورة أوضح لبدايات الثورة السورية وأهدافها وأحلامها التي بدت أنها غائبة عن الجمهور الأوروبي.
حاف والداعور.. نماذج تكررت في كل المدن الثائرة
وفي لقاء صحفي أجرته عنب بلدي مع المخرج إياد الجرود (32 عامًا)، قال إن فكرة الفيلم استلهمها من قصة شخصيتي حاف والداعور، وهما شابان في العشرينيات من العمر في الفترة التي تم فيها توثيق أحداث الفيلم.
وبحسب الجرود، كان الشابان شخصيتين مميزتين في مدينة سراقب (محافظة إدلب) ولكل منهما خصوصيته. وأضاف أن تناول الفيلم للشخصيتين لم يكن كحالة فردية لأنهما كانا نموذجًا عن عدد كبير من الشباب السوري، “حاف والداعور نموذج عن شريحة كبيرة من الشباب السوري الذي عايش متغيرات الثورة بكل أبعادها وتفاصيلها والذي تعرض بدوره لمتغيرات شخصية”.
خلال الحراك السلمي، كان حاف يقود المظاهرات بالهتافات بينما كان يقودها الداعور بالضرب على الطبل. وأدى تطور الأحداث في سوريا وتنامي العنف الذي مارسه النظام في تلك المناطق إلى حدوث تغييرات في الشخصيتين واتجها نحو استخدام السلاح، ولكن كل بخصوصيته أيضًا، فهما نموذج عن كثير من الشباب السوري الذي عايش تلك المتغيرات وتأثر بها وأثّر فيها أيضًا، بحسب الجرود.
وفي فيلم القربان، كانت سراقب، كما حاف والداعور، نموذجًا عن المدينة التي عايشت متغيرات الثورة وانخرطت بتلك المتغيرات، ففي الوقت الذي كان لسراقب خصوصيتها وواقعها، كانت تمثل مدنًا أخرى شاركت في الثورة السورية. وأضاف الجرود أن فيلم القربان يمكن أن يكون نموذجًا عن جميع الأشخاص الذين ناضلوا من أجل الحرية والكرامة والقيم السامية، ليس فقط في سوريا ولكن في الدول التي ناضلت لقيم مشابهة وضحّت من أجلها عبر التاريخ.
لم يكن يدور في خلد إياد الجرود أنه سيعمل في مجال إخراج الأفلام الوثائقية عندما انطلقت الثورة السورية عام 2011، إذ إنه كان يعمل مدرسًا لمادة الرياضيات، لكن شغفه بتوثيق تلك اللحظات حرّكه لحفظها بطريقة فريدة، ومن جهة ثانية، كان هدفه إعلاميًا يتعلق بنقل صورة الواقع ومشاركتها مع مناطق سورية أخرى وحتى نقل تلك الصورة إلى خارج سوريا. يقول الجرود إنه عند انطلاقة الثورة لم يتوقع أن الثورة ستأخذ كل هذا الوقت وأن كل هذه المتغيرات ستطرأ عليها، كان يحلم بأن النظام سيسقط في زمن أقصاه عام.
ولكن بعد أشهر قليلة، “بات من الأسهل الإدراك أننا ماضون في طريق طويلة وأكثر وعورة من كل توقعاتنا”، يضيف الجرود، “عندما بدأ الحال بالتحول لحالة مستمرة ومعقدة، بات من الواجب حفظ هذه التفاصيل والأفكار بطرق أخرى تمكن من صياغتها وتقديمها بأشكال مختلفة أحدها الأفلام الوثائقية”.
لم يكن الجرود مجرد شخص يحاول صناعة فيلم وثائقي فقط كحال أي صحفي أو مخرج أفلام أجنبي يأتي إلى سوريا ليكتب تقريرًا أو يصنع فيلمًا، بل كان ابن الواقع وابن الحراك وإليهما ينتمي. كما لم تكن فكرة القربان مجرد سيناريو معد مسبقًا، بل كانت تتقاطع مع تجربته الشخصية التي يعايشها برفقة شخصيات الفيلم والمجتمع المحيط في مساحة ينتمي إليها وليس مجرد بيئة ملائمة لصناعة فيلم.
عايش المخرج ذلك الواقع وتفاصيله بحراكه المدني والعسكري ومتغيراته المعقدة والمتسارعة، ليس كصانع أفلام، ولكن كناشط مدني لديه مهام يقوم بها ضمن ذاك الواقع، ولأنها تجربة شخصية، لم يكن الجرود قادرًا على عزل نفسه عن تلك الأحداث، والمشاعر المختلفة المرافقة لها، حسب قوله، وإن كان يتحدث عن صعوبات واجهها في أثناء إخراج الفيلم، فهي تتقاطع مع تلك الصعوبات التي كانت تعايشها شخصيات الفيلم.
صراع على صياغة التاريخ
بالرغم من أنه صنع الفيلم، وسار في طريق كان متعبًا إلى أن وصل به إلى واحد من أهم مهرجانات الأفلام الوثائقية في العالم، فإنه يرى أنه يمثل ساعي البريد الذي يحاول نقل رسالة خطتها آلاف الأصوات والأحلام والتضحيات في أماكن مختلفة في سوريا.
أما عن الإنجاز بشكل عام، فيقول الجرود إنه من “الصعب في هذا الوقت مناقشة الإنجاز دون التفكير بالأثر الذي يحدثه هذا العمل، فضمن الوقت الراهن وبهذه الظروف التي يمر بها الواقع السوري، وإحساسنا جميعًا بالعجز عن التأثير أو التدخل بأي تفصيل من التفاصيل التي تحدث في سوريا، وتحولنا إلى متفرجين مجبرين على متابعة الأحداث دون القدرة على التغيير فيها، جعل الإجابة صعبة للغاية لتحديد الإنجاز الذي حققه الفيلم”.
الفيلم يذهب باتجاه حفظ جزء من التاريخ، جزء من الواقع السوري “الذي يحاول الجميع تهميشه أو تجاوزه”، الواقع الذي كان بجزء منه “ثورة محقة بمطالب محقة لأناس تناضل من أجل الحرية والكرامة ومن أجل قيم سامية يحاول الجميع محوها من الذاكرة السورية”، بحسب تعبير المخرج.
بدأ النظام بالسيطرة أكثر وبدأ باستعادة علاقاته مع الكثير من الدول، ولا أحد يدري أين سينتهي الواقع السوري في حال انتصر النظام في سوريا أو أي منتصر آخر يطرح حلولًا بعيدة كل البعد عن طموحاتنا وتطلعاتنا، سيأتي من يعمل على صياغة تاريخنا وصياغة هذه اللحظات.
يحاول القربان أن يحفظ تلك اللحظات لتبقى على قيد الحياة ولا يسمح لأي جهة كانت أن تمسحها، ويعتقد أن علينا جميعًا أن نضع بصمتنا للحفاظ على تلك التفاصيل التي تشاركناها في وجه كل من يحاول تشويهها بوصفها أنها حرب أهلية أو صراع بين النظام والمجموعات الإسلامية المتطرفة.
“يتم اغتيال الشهود وتكميم كل من يمتلك وثيقة عن هذا الواقع لفظية كانت أو مكتوبة أو مرئية، إضافة إلى التدخلات الكبيرة في سوريا وامتلاك وسائل إعلامية كبيرة، لكل منها أجنداته الخاصة. وفي الفترة المقبلة سيكون هناك صراع على صياغة تاريخ السنوات الماضية”، يستشرف الجلود لكنه يرفض الاستسلام، “إن كنا قد هزمنا على المستوى العام فلا يجب أن نهزم على مستوى أفكارنا وألا نتنازل عنها بسهولة. على المستوى الشخصي، دفعنا سنوات من حياتنا بألمها وتعبها ولن نقبل أن يقوم أحدهم بصياغة تاريخنا بالشكل الذي يريده. يجب أن ندافع على الأقل عن حقنا في التاريخ لندافع عن هذه التضحيات وليس عنا فقط بشكل شخصي كأفراد، أن ندافع عن الأشخاص الذين تشاركنا معهم وضحوا بحياتهم لأجل الأفكار التي تشاركناها، علينا أن ندافع عن تاريخ أولئك الأشخاص ونحفظ تضحياتهم”.
المهرجانات الدولية ضرورة لا رغبة
يؤكد الجرود أن الوصول إلى مهرجانات عالمية هو ضرورة أكثر من كونه رغب، لأننا لا نتحدث في ظروف طبيعية ومستقرة أو شخصية، لكننا نناقش هذا في ظروف استثنائية وعامة ندعي فيها انتماءنا للواقع السوري بثورته ومجتمعه وتفاصيله. فلو كان الأمر شخصيًا، كانت المهرجانات ستكون رغبة أكثر منها ضرورة لأنها تمنح الشخص شهرة أوسع ووصولًا أكبر، إلا أنه وفي ظل واقعنا فنحن بحاجة لهذه المنابر المهمة لتكون بوابة تسهل لنا الطريق للوصول برسائلنا لمساحات أوسع ولفئات أكبر ومجتمعات أخرى.
الفيلم يستند إلى مادة أرشيفية ضخمة جدًا تغطي فترة زمنية بحدود ثلاث سنوات. وبحسب الجرود، كانت فترة العمل على الفيلم مرهقة لأنها إعادة للذاكرة، وفي كل مرة تأخذه إحدى الشخصيات للحظات الأولى لكل حدث وتجعله يعيش تلك التفاصيل مرة ثانية بكل مشاعرها من حزن وألم وفرح، “لكن أصعب اللحظات هو إعادة تكرار تلك اللقطات مرات ومرات ونبش الذاكرة بتفاصيلها كلها، كل لحظات الخيبة والألم وكل الأخطاء التي حصلت حينها وأثرت في مسار ثورتنا ولم يكن في وسعنا منعها، كل الأشياء التي لم نستطع أن نقف بوجهها”.
بالنسبة للجرود فـ “الإخراج وسيلة مساعدة ومهمة للوصول برسائلنا وأفكارنا، ولكنها أيضًا ليست الطريقة الوحيدة، فهناك أيضًا الصورة والنص وأي فعل آخر من شأنه أن يسهم بجزء من بنية الذاكرة التي ندافع عنها أو الفكرة التي نسعى للتقدم بها، ومن المهم أن نتقن وننتمي للعمل الذي نقوم به مهما كانت طبيعة ذلك العمل، أنا اليوم أنتمي للإخراج كما انتميت سابقًا لعملي كمدرس”.
ويرى نفسه أمام التزامات كبيرة، يمكن أن تخرج في لحظات معينة عن الإطار العام لأنه لا يعلم إلى أي مدى نستطيع الحديث عن الثورة بصورة جمعية بعد كل المتغيرات التي طرأت على الثورة وسوريا بشكل عام وحتى على مستوى الأفراد الذين كنا نعتبر أنفسنا أننا نتشارك معهم نفس الأفكار، ويرى أن الدوائر بدأت تضيق وبات الالتزام أمام القضايا التي نؤمن بها التزامًا فرديًا. وأضاف الجرود عند سؤاله هل ستكون هناك مشاريع أخرى مستقبلية، “بما أننا نستمر بقبولنا العيش في هذا العال، فيجب أن نستمر بالمحاولة على أمل أن يأتي ما هو أفضل على هذه المساحة التي نعيش فيها”.
فيلم القربان ليس العمل الأول له الذي يصل إلى العالمية، إذ سبقه فيلم دفاتر العشاق (حيطان سراقب) وهو فيلم وثائقي متوسط الطول مدته 55 دقيقة ومن إنتاج 2014 وكان عرضه العالمي الأول خلال مهرجان روتردام الدولي للأفلام، كما عرض في مهرجان مونتريال- كندا وفي عدد كبير من الأماكن الأخرى في العالم وهو يطرح فكرة ابتداع وسيلة الرسائل التي وجهتها حيطان سراقب من خلال رسومات الغرافيتي للمدن السورية الثائرة وللعالم.