السلطة والتهجير عند الأسدَين
حذام زهور عدي
عندما استطاع حافظ الأسد أن يسيطر على الحكم في سوريا نشر مقولات علنية يبرر فيها أسلوب وصوله إلى السلطة، وأظهر الأمر، وكأن الشعب السوري كان محتاجًا إليه وأنه فعل ما فعل فقط لينقذه من أيدي صبية كانوا يتلاعبون بمصيره.
أما المقولة الأولى، فهي تخليص السوريين من حفنة مراهقين سياسيين يسومون الشعب سوء العذاب ويقتتلون فيما بينهم من أجل كرسي الحكم. والثانية، كانت اتهامًا مبطنًا لرفاقه السابقين بالعلاقات المشبوهة أو بالمزاودات في موضوع اليسار واليمين وما يستتبع ذلك من مواقف اشتراكية أو تعاملات دولية.
والثالثة، وهي أخطر مقولاته العلنية، هي أن الشعوب العربية -والشعب السوري منهم- لا يصلح حكمهم إلا برئيس يحمل مسؤولية الحكم كاملة ويكون البطل المرتجى، وأن الديمقراطية وتعدد الآراء لن تسبب إلا الفوضى وعدم استقرار الأوطان، مستشهدًا بعبد الناصر الذي توفي قبل أيام، وكانت شعبيته لا تزال تملأ ساحات مصر بل والساحات العربية أيضًا، فما أكثر ما سمعه المحيطون به يتحدث عنه ويتمنى جنازة له كجنازة عبد الناصر.
أما المقولات المُضمرة والتي مثلت فعليًا أسلوب حكمه فكانت متعددة، أولها، وجوب تهيئة قاعدة اجتماعية ترتبط مصالحها بدوام حكمه، وأفضل طريق لتحقيق ذلك هو استجلاب الطائفة التي ينتمي إليها بالولادة بإعطائها بعض الدعم المعنوي والسماح لأفراد منها بمكاسب غير عادية، مع تلاوين انتهازية من تنوع الشعب السوري، وما عليه سوى توزيع القيادات العسكرية على بعض أبناء عشائر الطائفة وتقريبهم وإرخاء حبل الفساد والمناصب وتحريك العقد التاريخية، والإيحاء لما يُسمى “الأقليات” الأخرى، بأنه الحامي والمنتقم من تاريخ اضطهادهم الطويل، وبذلك يضمن الحماية الاجتماعية لدوام سلطته وتمزيق وحدة المجتمع السوري على طريقة “فرق تسد”.
والأساس الثاني المضمر، هو الإمساك بمصادر القوة التي سببت وتسبب الانقلابات في سوريا والتي استطاع هو نفسه الوصول من خلالها، إنها الجيش السوري، بقوته المفترضة من أجل مواجهة العدو الإسرائيلي تحت شعار “الجبهة الشرقية” في البدء، ثم شعار الممانعة والمقاومة فيما بعد، لتحرير الجولان، كما طور أجهزة الأمن وأوجد أجهزة رديفة يمكن أن تكون عونًا، كسرايا الدفاع وسرايا الصراع، ريثما ينتهي من ترتيب شؤون القوى الأخرى. وهكذا أشاع فكرة “الجيش العقائدي” ليتبين أن عليه أن يدافع عن عقيدة واحدة هي “الأسد إلى الأبد، الأسد أو نحرق البلد”.
أما الأمر الثالث فهو أنه يستطيع بعد أن اعترف العالم شرقًا وغربًا والأمم المتحدة بشرعية سلطته، أن يفعل ما يريد بمملكة سوريا، ولسان حاله يقول، إن الملوك الآخرين ليسوا أفضل منه، وهو حرٌ بمالها وبشرها وأرضها وسمائها وبتوريث ابنه حاكمًا عليها إن جاء أجله، وما أكثر طرق التحايل والتزوير المضحك المبكي فيما يُسمى انتخابات ثم استفتاء ثم بيعة، إلى مفردات ليس لها مضمون أو معنى حتى ضجت اللغة العربية منها.
وهكذا لم يترك لأي صوتٍ معارض أو ناصح أو مختلف مع مقولاته تلك وأساليب حكمه، طريقًا للعيش الكريم، إلا الهجرة خارج البلد لمن لا خطر منه، أو السجون والمعتقلات التي لا يعرف عذابها إلا من ذاقه، أو الاغتيال والإعدام بوسائل مختلفة، لمن يرى فيهم خطرًا أو تجاوزًا لخطوط تحمي سلطته.
كانت فكرة التهجير بطرق متعددة، أسلوبًا مهمًا من أساليب الاحتفاظ بالسلطة واستمرار العرش، وليست عملية طارئة على سلطة بشار بعد الثورة السورية، والفارق فقط أن بشار وظفها للتخلص من نصف الشعب السوري على الأقل بينما كانت محدودة أيام الأب، وهو فارق ليس بالقليل.
من هنا فإن مطلب العودة اليوم هو أحد المطالب الثورية المهمة، ليس فقط إحباطًا لخطط التهجير الأسدية، وإنما لأن ثورة بدون مجتمع خرافة بعيدة عن الواقع، خاصة أن موضوع التهجير أصبح مُعممًا في غياب أي عقوبة له، وتغطية المجتمع الدولي عليه، وهذا لا يبرر التهجير الإسرائيلي للفلسطينيين فقط وإنما يبيح استخدامه داخل الأرض السورية أيضًا، وقرى الجزيرة وشرق الفرات صورة واضحة لذلك التعميم وتلك هي خطورته، فأي مجموعة سكانية تمتلك القوة أصبح بإمكانها تهجير جيرانها المختلفين بدعاوى مختلقة لتمكن نفسها من أراضيهم وممتلكاتهم، وهكذا تُلغي البشرية آلاف القرون من التطور وتثبيت الحقوق الإنسانية للضعيف قبل القوي.
من نافل القول إن الدعوة إلى العودة، على أهميتها الاستراتيجية، ليست كلمة تُقال أو شعارًا غير واقعي يُتداول على البرامج الالكترونية، (وها هو المعلم وزير الخارجية المستقيل أو المبعد يتباهى أمام الصحافة الأممية بمطلب العودة كذبًا وزورًا)، فللعودة مشاكل وتعقيدات كثيرة، لكن مهمة العمل الثوري اليوم دراسة المعطيات الواقعية وإيجاد الحلول المناسبة تدريجيًا لتحقيق هذا الهدف الهام، ولعل تعاونًا بين الدول والمجتمعات ذات المصلحة المشتركة بعودة المهجرين السوريين ينفع في هذا المجال، كما أن إحياء القرارات الأممية وتوثيق انتهاكها مفيد أيضًا، لا سيما إذا تحول إلى عملية حقوقية يحفز من خلالها القضاء العالمي على التحرك، وربما الدفع باتجاه ربط معونات إعادة الإعمار بعودة واضحة مليونية آمنة وكريمة تُغلق المخيمات ومآسيها على الأقل، ربما كان ذلك الطريق الأكثر إمكانية.
لا بد من العمل المتواصل لوضع حلول لسوريا، الشعب والوطن، فانهزام الفصائل المسلحة ليس نهاية الثورة السورية، إنما قد يكون إعادة البداية المشرقة لها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :