يقدم أمين معلوف المسائل الفلسفية الجوهرية الكبيرة بكلمات بسيطة سهلة بعيدة عن التعقيد، وهذا ما تجده حين يتناول على طول كتابه الشيق مفهوم الهوية، فيحللها مؤكدا أنها مفهوم مصطنع ومتبدل عبر الزمن، مع أن الناس تتعامل معه في كل مرة كأنه ثابت نهائي.
فيضرب مثلا بشخص مقيم في سراييفو عام 1980، «فلو طلب من هذا الرجل تحديد هويته لأجاب أنا يوغسلافي،…، ولو التقينا ذات الرجل بعد 12 عامًا حين كانت الحرب على أشدها لأجاب أنا مسلم، أما اليوم فلا بد أنه سيجيب بأنه بوسني أولًا ثم مسلم … إنه يأمل أن تنضم بلاده يومًا ما إلى الاتحاد الأوروبي».
بهذه الأمثلة يوضح أمين معلوف أن هوية الإنسان تتألف من «جملة من العناصر لا تقتصر بدهيًا فحسب إلى تلك الواردة في السجلات الرسمية… فقد يشعر المرء بانتماء قوي بهذا القدر أو ذاك إلى إقليم أو قرية أو حي أو عشيرة أو فريق رياضي أو نقابة أو شركة… ولا تكتسب كل هذه الانتماءات بدهيًا الأهمية عينها، ولا في اللحظة نفسها في مطلق الأحوال… إنها العناصر المؤسسة للشخصية أو جينات الروح».
يتحدث الكاتب عن نفسه فيقول إنه مسيحي ولغته الأم هي العربية ويمتلك الجنسية الفرنسية ليصل إلى نتيجة مفادها أنه ليس هنالك من شخصين متطابقين، «أنا أملك، بفضل كل انتماءاتي، كل منها على حدة، صلة قربى بعدد هائل من بني جنسي، وأتمتع بفضل المعايير كلها مجتمعة، بهويتي الخاصة التي لا تتطابق مع أي هوية أخرى».
وبعد أن يفرغ من تبيان معنى الهوية ومقدار تغيير معناها الدائم وفقًا للظروف، فإنه يناقش ما يثار الآن حول الإسلام فيقول: «مهما غصنا في بطون الكتب المقدسة، ورجعنا إلى كلام الفقهاء، وأقمنا الحجج والبراهين، سوف تبقى هناك دوما تفسيرات متناقضة… فالنص لا يتغير بل نظرتنا هي التي تتغير…. هي التي تتوقف في كل عصر عند بعض الآيات وتغفل بعضها الآخر».
ولهذا السبب فإنه لا جدوى من التساؤل حول ما تقوله حقًا المسيحية أو الإسلام أو الماركسية، بل الأجدى البحث في سلوكيات الذين يدينون بها عبر التاريخ، وعليه يرى أمين معلوف أن الإسلام استطاع في زمانه أن يحترم نسبيًا الشعوب الأخرى الواقعة تحت سيطرته، وقد استوعب تقليديًا ديانات توحيدية أخرى في الأراضي التي سيطر عليها.
ومن خلال تأكيده على هذه الحقيقة فإن أمين معلوف يريد التأكيد على قضية محورية يناضل من أجلها حيث يقول: «إن ما أكافح وسوف أكافح ضده ما حييت، هو تلك الفكرة القائلة بوجود دين من جهة -المسيحية- كان مهيئًا في كل الأوقات لنقل الحداثة والحرية والتسامح والديمقراطية، يقابله دين آخر -الإسلام- محكوم منذ البداية بالطغيان والظلام، إن هذه الفكرة مغلوطة وخطرة، وهي تسد كل الآفاق أمام قسم كبير من البشرية».
ومن ثم يناقش الكاتب ما أسماه «زمن القبائل الكونية» حيث تجنح الناس أكثر فأكثر نحو التجانس، وعليه يعتقد معلوف «أننا أشبه بمعاصرينا أكثر بكثير من أسلافنا…. وكذلك القول بالنسبة للمعتقدات فمهما قلنا إننا مسيحيون أو مسلمون أو يهود أو بوذيون فرؤيتنا للعالم والغيب على السواء لا علاقة لها مطلقا برؤية إخواننا في الدين الذي كانوا يعيشون منذ خمسة قرون».
يشكل كتاب أمين معلوف ضرورة في الوضع السوري الحالي، حيث يشعر الجميع بضياع هويته ويصارع على إثباتها، ولعله من المفيد الذكر أن الكاتب قد مر في وضع شبيه بالوضع السوري، فهو عايش الحرب الأهلية اللبنانية ويدرك تمامًا متى وكيف من الممكن أن تصبح الهوية «قاتلة».