أرض النفاق

  • 2018/12/02
  • 12:00 ص

إبراهيم العلوش

ساحة النفاق تغلي اليوم في أوساط المؤيدين، فقد غيّر بعض منهم ألقابهم أو سمّوا أبناءهم بأسماء إيرانية أو روسية، وانكب آخرون على تعلم اللغتين الروسية والفارسية، واعتبار ذلك خلاصًا لهذا البلد من “الإرهاب” ومن داعش، وهم يعنون في الحقيقة: الخلاص من الثورة، التي نغّصت شعورهم بالدونية، وهددت استثمارهم لهذا الشعور في كسب المزيد من النفوذ والمال.

منذ الانقلاب البعثي 1963، وطوال أكثر من نصف قرن، ظلت شعارات الوحدة العربية، والأمة الخالدة، والرئيس الخالد، جاثمة على عقول وقلوب أجيال من السوريين، وظلت هي الوسيلة المثلى لنشر ثقافة النفاق، ولاختبار النوايا والمكنونات والتأكد من خضوع مختلف فئات الشعب السوري وأفراده، ومن ثم هي الفرن وأداة إنضاج صناعة المنافقين وتطويرهم إلى مخبرين وجلادين.

وأبدع المنافقون مقولات مفجعة أسست لهذا الخراب، وصارت جزءًا من الثقافة العامة في “سوريا الأسد” مثل: “أنا بعثٌ وليمت أعداؤه”، “طلبنا من الله المدد.. فأرسل إلينا حافظ الأسد”، وقد تطور هذا الشعار لاحقًا ليصبح “قائدنا إلى الأبد.. الأمين حافظ الأسد”، وصارت كل القطعات العسكرية تردده في الاجتماع الصباحي، بعد انتصار حافظ الأسد على أخيه رفعت في الثمانينيات.

وقد تطور هذا الشعار بدوره ليصبح “الله.. سوريا.. بشار.. وبس” وأخذ حده الأقصى بشعار “الأسد أو نحرق البلد” وقد صار حقيقة على أرض الواقع، مع ميزة تسليم البلد المحروق إلى المحتلين الروس والإيرانيين ومن شاء غيرهما.

وقد استفادت من هذه الثقافة وانتشارها المستحكم الفصائل والتنظيمات الإسلامية والبيدا (PYD)، فهم ما إن يصلوا إلى قرية أو حي حتى يجدوا وفود المنافقين تمدحهم وترفع من شأنهم، وتعلن أنها كانت تنتظرهم منذ سنوات طويلة، ما جعل هذه التنظيمات تنجرف باستسلام للاندفاع في نفس ممارسات البعث، وممارسات مخابراته، التي تثبّت ما وصل إليه المنافقون من انتشار، وتشجع المنفاقين لتحصد منهم الأنصار والمخبرين، وحملة السلاح الذين لا يوفرون فرصة للظهور والاستمتاع بالنفوذ، وبالقوة، حتى ولو كانت الضحية دينهم المعتدل، أو بلدهم، أو أهلهم.. بل حتى ولو كانت عائلاتهم.

وهكذا انتشرت مقولات مثل “والله كنا قبلكم نعيش في ضلال مبين!”، وبزغت فجأة اللحى المنافقة، والألبسة الأفغانية، وبين عشية وضحاها، تحولت كل المسميات، بما فيها السجون والمعتقلات، إلى أسماء الصحابة والفقهاء.

تطور النفاق في أرض البعث من الضجيج والصياح في المسيرات الشعبية، إلى كتابة برقيات الولاء بالدم، وصولًا إلى الانتخاب وتجديد البيعة بالدم، والذي كان مقتصرًا على ضباط وأفراد الجيش (العقائدي البطل!) ومجنديه فقط، وتطور إلى بقية المنافقين والموالين الذين كانوا يتناولون الدبابيس أمام الناس يغزون بها أصابعهم لينتخبوا “السيد الرئيس”، أملًا في أن ينقل المخبرون المخلصون وقائع الانتخاب بالدم إلى القيادة، ومن ثم الحصول على منصب، أو الاستمرار في منصب مهم، أو إسقاط تقارير كيدية بحقهم، أو دعاوى قضائية تمت إقامتها من قبل إدارات التفتيش بقصد التشليح والمشاركة، وليس بقصد إحقاق الحق ونشر النزاهة، أو تطبيق القانون.

وسيول النفاق اقتحمت معاقل تنظيمات الثورة أيضًا، وجلبت إليها المياه السوداء التي تنتشر في اجتماعات الائتلاف، والحكومة المؤقتة، وصار فلان أبو القانون، وعلان أبو الثورة، وفلانة أمينة النزاهة، رغم غياب القانون والنزاهة عن الكثير من هذه المواقع والمسؤولين، ولا تزال الفضائح تخرج كل يوم في صحافة الثورة، وفي أوساط الشبكات الاجتماعية عن السرقة، وعن الولاء لهذه الجهة الأجنبية أو تلك، او حتى عودة بعض المنافقين الثوريين إلى البحر الكبير للنفاق، في حضن الوطن، الذي تربوا فيه على هذه القيم التي صارت أصيلة في نفوسهم وفي حياتهم، ولا يمكنهم الاستغناء عنها، أو تغييرها أبدًا.

كانت أصوات المنافقين ترتفع في المسيرات الشعبية والمناسبات الوطنية التي احتكرها نظام الأسد للكذب وللمبالغات، ولتأليه عائلته، وكثير من المنافقين سرعان ما يترقون إلى مخبرين أو مدراء، ويخفت صوتهم، ويتحولون إلى الإيقاع بموظفيهم الشرفاء، أو بأقاربهم ومعارفهم الذين يرفضون النفاق وممارساته، وينشرون هذه الثقافة لتهبط إلى أسفل السلالم الاجتماعية والنفسية، وتعزّز هذه القيم في العشائر، وفي البيوتات العائلية، والطوائف والمذاهب الدينية، وصار هذا النفاق سيلًا هائلًا لم تعد مقاومته مجدية، إلا بقيام الثورة السورية، التي رفض شبابها الانخراط في هذه المنظومة من القيم، التي تفتت الشعب السوري، وتحوله إلى أكوام من البشر بلا إرادة وبلا كرامة، وتتم المتاجرة بهم واستهلاكهم من قبل أجهزة المخابرات.

استثمر الروس نفوذهم وقوتهم ضمن منظومة كبار الضباط في الجيش والمخابرات، وضمن مجموعات خريجي روسيا وأوروبا الشرقية، وضمن أوساط المسؤولين الشيوعيين الذين ما زالوا يعتبرون الكرملين كعبتهم، وضمن كبار رجال الدين الفاسدين في بعض الطوائف الدينية، وتمددوا ضمن طبقات الدرجة الأولى من قادة النظام ومسؤوليه، مستفيدين من آلية النفاق التي أفقدت هؤلاء أي إحساس بالواجب أو بالكرامة، أو بالولاء للوطن.

أما إيران فقد استثمرت في أوساط المنافقين بشكل أوسع، وأكثر تنظيمًا، وساعدها الزمن أكثر، منذ الحرب العراقية الإيرانية 1980، وإعلان حافظ الأسد الولاء لها ولثورتها الطائفية، وكذلك استثمرت في الحرب الأهلية اللبنانية التي أنبتت منافقين من ألوان وأشكال مختلفة تمتد من حزب الله الطائفي، إلى أحزاب القوميين السوريين التي تدّعي العلمانية.

وفي الداخل السوري تحول سيل السياح الإيرانيين، عبر سنوات طويلة منذ الثمانينيات من القرن السابق، إلى منظومة مخابراتية واستيطانية انتشرت في دمشق ريفها، ومن ثم إلى المدن الأخرى، وأثمرت هذا النفوذ الكبير في سوريا. فالاحتلال الإيراني ليس احتلالًا بسيطًا، أو ارتجاليًا، إنه احتلال مشغول عبر سنين طويلة في فنادق المرجة بدمشق، وفي المزارات والجوامع، والهيئات التبشيرية المذهبية، فقد باع النظام منافقيه كسلعة للاستهلاك الإيراني، الذي أثمر كل هذا الدمار، والتخريب، لسوريا ولأهلها بشكل غير مسبوق.

هذه الثورة هي السبيل الوحيد لنا كسوريين للخلاص من منظومات النفاق، ومن مستنقعاته السوداء التي باتت تنتج أشكالًا متجددة من الخراب. والتمسك بمطلب الحرية والكرامة في هذه الثورة، هو الترياق الأكيد ضد وباء النفاق.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي