عنب بلدي
لاقت قضية الاعتداء على صحيفة شارلي ايبدو الفرنسية أبعادًا جديدة داخل سوريا، حيث خرجت عشرات المظاهرات احتجاجًا على الإساءة للرسول الكريم وطريقة تعاطي الإعلام مع القضية؛ وفي حين أبدى بعض الناشطين غضبهم بإحراق مجموعة من الصحف المحلية، اقتحمت جبهة النصرة مكاتب إعلامية وثورية في مدينة كفرنبل بناءً على بلاغٍ يفيد بطباعة الصحف داخلها.
- «إلا رسول الله»
وخرجت يوم الجمعة 16 كانون الأول مظاهرات في عدد من المدن السورية منددةً بالرسوم المسيئة للرسول محمد، التي نشرتها الصحيفة الفرنسية، وطريقة تعاطي المجتمع الدولي مع الاعتداء الذي أسفر عن مقتل 12 صحفيًا وموظفًا في الصحيفة، متجاهلًا أصل المشكلة وهي «الإساءة إلى معتقدات الناس وأفكارهم» وفق لافتاتٍ رفعها المتظاهرون.
وأكدت المظاهرات التي شهدتها أحياء حلب وإدلب وريف حمص والغوطة الشرقية لدمشق على «أخلاق الثورة المستمدة من الإسلام»، نافيةً الوقوف إلى جانب «الإرهاب»، في حين شككت مظاهرات أخرى بأن القضية «تخطيط مخابراتي غربي» لتمرير قوانين أو التضييق على المسلمين.
وعن دوافع المظاهرات ومسبباتها قالت الدكتورة نور الخطيب، عضو الشبكة السورية لحقوق الإنسان، «بالأصل لا يوجد حراك شعبي بلا محرك، وأي عمل جماهيري بحاجة إلى تحضير وتنظيم وجهات تتبادل الأدوار وقس على ذلك».
وأشارت الخطيب إلى أن الأمرين اجتمعا في المظاهرات المنددة بالرسوم المسيئة، «بالأصل هناك استياء شعبي سيتجاوب مع أي عمل يجعله يشعر بأنه عبر عن غضبه، وكذلك وجود أطراف إسلامية تحشد وتشجع».
- إحراق الشعارات والصحف
وأحرقت خلال المظاهرات التي شهدتها حلب، في حوادث متفرقة، شعارات «أنا شارلي» الموجودة في بعض الصحف المحلية، على اعتبارها «تتبنى قضية الصحيفة ونهجها الساخر من الأديان»؛ لكن المتظاهرين أكدوا في الوقت ذاته أنهم “ضد العنف وقتل الصحفيين”، معتبرين أن ذلك ليس من “أخلاق الإسلام”.
ويقول عدنان الدمشقي، عضو تنسيقية برزة، في تعليقه على الحادثة «أنا مع حرية التعبير ولكن عندما تكون محقة، وعندما لا تتجاوز التشريعات السماوية؛ حين تفعل ذلك سنقف جميعًا ضد الحرية».
لكن جواد أبو المنى، رئيس تحرير صحيفة سوريتنا، يردّ بأن «الجريدة لم تنشر ما يسيء للنبي الكريم أو الإسلام؛ هذا ليس من ثقافتنا ولا من مجتمعاتنا أو تقاليدنا”، مردفًا “ما تنشره صحيفة شارلي ايبدو هو إهانة لنا كسوريين ومسلمين.. إهانة لمجتمعنا وثقافتنا”.
وحول إحراق بعض الأعداد من صحيفة سوريتنا قال أبو المنى “ما تم فهمه على أنه تضامن مع شارلي وإعادة نشر رسومها غير صحيح، ولن ننشر ما يجرحنا لنا قبل أن يجرح قراءنا”، وأضاف “ما نشرناه كان تأكيدًا على حرية التعبير التي هي بيت المشكلات السورية لـ 50 سنة، ودفع السوريون ثمنها الكثير من الدم بدون أن تتحقق… التضامن الوحيد مع شارلي ايبدو، ألا يدفع صحفيوها دمهم بسبب معتقداتهم؛ تستطيع أن تكتب ضدها وتقاطعها وتحاربها بطريقتها لا أن تستخدم العنف والدم لتقمعها”.
- مداهماتٌ وتهديد
وفي تطورٍ لافت للقضية اقتحمت جبهة النصرة أمس السبت عددًا من المكاتب الإعلامية والمراكز المدنية في مدينة كفرنبل بريف إدلب، مهددةً بإغلاقها ومهينةً العاملين فيها.
وقال الناشط الإعلامي رائد فارس عبر صفحته في الفيسبوك إن “مجموعة تابعة لجبهة النصرة اقتحمت مكتب الإعلام ومقر راديو فرش بالأسلحة والبوط العسكري من جديد، وتم الاعتداء على الناشط هادي العبد الله بالضرب”.
كما قامت مجموعة أخرى تابعة لذات الجهة باقتحام مركز مزايا النسائي “بطريقة مهينة جدًا بحق النساء”، كما ضربت إحداهن لتصاب بنزيف قد تفقد جنينها على إثره، وهددت “بقطع الرؤوس إن عدن مجددًا إلى المركز” كما يقول فارس.
وأضاف أن الحجة التي اقتحمت المراكز بها هي “بلاغ بأن كل منها مقر لطباعة مجلة سوريتنا التي تطبع في الخارج وتوزع في الداخل”.
بدوره أكد هادي العبد الله الحادثة عبر حسابه الرسمي في تويتر وأوضح “كنا نصلي الظهر، قطعنا الصلاة بعد خلعهم لباب المركز، جمعوا أعضاء المركز وموظفي الراديو ومنعوهم من الحراك؛ اقتربت من أحدهم وعرفت بنفسي وقلت: فينا نعرف شوفي؟”.
وأضاف العبد الله “ضربني وصرخ تسبون الرسول يا فجرة؛ صحت به وبمن معه: إننا أشد منكم دفاعًا عن نبينا صلى الله عليه وسلم”.
وفي النهاية اعتذر المهاجمون بالقول “لا تآخذونا غلطانين.. فكرنا هون بتنطبع جريدة سوريتنا” وكذلك في مركز مزايا، حيث وصفوا النساء بأنهن “سافرات عاهرات” وفق تعبير العبد الله.
بينما أوضح جواد أبو المنى أنه “ليس لسوريتنا أي مركز طباعة داخل سوريا”، رافضًا “ممارسة القمع بهذه الطريقة والاعتداء على مراكز مدنية وإعلامية وخصوصًا مركز مزايا للنساء لما فيه من اعتداء على أسر شهداء وعائلاتهم”.
- صدى المواقف
واختلفت تصريحات الناشطين بين مطالبٍ بعدم الالتفات إلى قضايا ثانوية في الوقت الذي يموت فيه الناس بردًا وجوعًا وقصفًا، وبين من يجد بأن سبب الاحتقان هو “التماهي مع الصحيفة الفرنسية والتبرير لها في الإساءة إلى الرسول تحت مسمى حرية التعبير”.
يوسف الأحمد، ناشطٌ إعلامي في مدينة كفرنبل، يعتبر في حديثه لعنب بلدي أن تصرف جبهة النصرة “اعتداء على الثورة؛ ما هكذا تورد الإبل، وعملها لا يفعله إلا الشبيحة”، مؤكدًا أنه “لم يكن لنا أي تصرف معادٍ للجبهة لتهجم على المكاتب الثورية بهذا الشكل، ولا يوجد أي ارتباط بين المكاتب وجريدة سوريتنا، فهي كباقي الصحف التي توزع في المدينة”.
أما عمر حاج قدور، عضو تنسيقية بنش بريف إدلب، فيذهب إلى رأي أكثر “تشددًا” في الجانب المقابل بالقول “بعد نشر الرسوم المسيئة للرسول الكريم، كان الهجوم على جريدة شارلي ايبدو أقل ردّ محتمل عليها”.
- هل تتأثر الرؤية الفرنسية إلى سوريا
بدوره رأى الكاتب والباحث السوري حمزة مصطفى أنه “فجأة وجد المسلمون أنفسهم في موقع الاتهام نتيجة تصاعد الإسلاموفوبيا وازدياد قاعدة اليمين المتطرف في أوروبا، الذي استغل الحادثة لإثبات وجهة نظره الداعية للعداء للمسلمين وترحيل جالياتهم”.
لذا تفاوتت ردة الفعل الإعلامية عربيًا وسوريًا بحسب مصطفى بين “من وجد في الهجوم المدان اعتداءً على حرية الصحافة وحق النشر دون قيود، فسارع لاتخاذ موقف تضامني وكامل تحت شعار أنا شارلي”.
وبخلاف ذلك، برز رأي يحمّل شارلي ايبدو المسؤولية بالتعدي والتطاول على المقدسات وتعمد استفزاز مشاعر الملايين من المسلمين، وفي توافق مع هذا الرأي برز رأي ثالث أميل للوسطية يدين الحادثة، لكنه يستغرب تعامي العالم والغرب عن مقتل مئات الآلاف من السوريين والعراقيين والتركيز على مقتل 17 شخصًا في دول غربية.
ويخشى مصطفى أن تؤثر حادثة شارلي ايبدو على تغيير الموقف الفرنسي في سوريا، إذ “تتبنى فرنسا في سوريا مقاربة مختلفة عن إفريقيا فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب والتصدي له، ولطالما ركزت فرنسا على أن الاستبداد في المشرق هو الذي خلق الإرهاب وأن زوال الإرهاب مرتبط بشكل كبير بزوال الأنظمة الاستبدادية…”، مشيرًا إلى أنه “في ظل ما نراه من حشد إعلامي على القنوات الفرنسية يدعو الحكومة لإعادة التفكير بالتعاون مع الأسد للقضاء على داعش والنصرة، فإن الأمور قد تأخذ منحى مختلفًا إذا ما تحول تنظيم داعش لقوة قائمة تهدد جديّا المصالح الغربية”.
وكانت صحيفة شارلي ايبدو الفرنسية التي عرفت برسومها الساخرة من المعتقدات الدينية وخصوصًا الإسلامية، تعرضت لهجوم من قبل مسلحين قبل أيام ما أدى إلى مقتل 12 رسامًا وموظفًا تزامنًا مع حوادث أمنية شهدتها العاصمة الفرنسية.
وفي الوقت الذي قالت المخابرات الفرنسية إن منفذي العملية شابان فرنسيان مسلمان، تضامن عددٌ كبيرٌ من حكومات العالم مع القضية وحضر ممثلون عنها إلى باريس للمشاركة في وقفة تضامنية مع الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند.
وبينما استنكر عددٌ كبيرٌ من المسلمين حادثة القتل أعادت الصحيفة نشر رسومٍ مسيئة للإسلام في إصدارها الذي أعقب الحادثة، لتبيع منه 5 ملايين نسخة وبـ 16 لغة.