لا أدري ما الذي هزّ أركان داريا يومها، صوت الانفجار الذي عمَّ المنطقة أم نبأ استشهاد «أحمد» طالبُ الكيمياء الذي آثر الشهادة على العيش ذليلًا. إذ لم تغفُ داريا ظهيرة يوم الجمعة 18 تشرين الثاني 2011، بعد ما سمعته من أصوات تفجيراتٍ خرجت من غرفةٍ كان أحمد ابن الحادية والعشرين ربيعًا قد حوّلها إلى مختبرٍ يُجري فيه تجاربه الكيميائية، ليهز هذا الصوت حتى أركان قوى المخابرات الجوية، وكأنك تخالُها مربوطةً بحبل سري مع كل فرقعةٍ أو صوتٍ أو حتى رائحة بارود. هرعت عناصر وميليشيات جميل حسن إلى منزل الشهيد، لتعتقل إخوته الأربعة وخاله، وتأخذ ما وجدت في المختبر من أدواتٍ ووسائل.
تقف أمُ الشهيد راسخةً تدوس الهموم قبل أن تعتصرها، وتقول «ولدي أحمد آخر العنقود عندي، واجتباه المولى ليكون أول مقطوف» ثم أخذت تروي مواقفَ لا تُنسى أبداً عاشتها مع فلذة كبدها. في أيامه الأخيرة بات حلم الشهادة يراوده حتى في يقظته، وفي حديثه لا يبرحُ يتفوه بكلماتٍ عن الجنة وما ينتظر الشهيد، ولا أخفيك يا بنيتي أنني كنت أتألم كلما ردد أغنية «طالع ع الموت يا أمي أتحدى الخوف…والخايف ميت يا أمي واللي بيطلع حي…»
فقلب الأم يتلوى من الألم، ومع ذلك تستعين بالمولى وتستلهم من مدده عونًا لتُكمِل ما بدأ به ابنها، وتقول: قلبي مطمئن على ولدي الشهيد ولكن أين أبنائي المعتقلين؟!.. أحمد… أحتسبه عند المولى شهيدًا.. فأَدخلْه اللهم فسيح رياضك، وتقبل عنه أحسن ما عمل، وتجاوز عن سيئاته، ولكن إخوته الأربعة الذين اعتقلوا يوم استشهاده، وأخي الذي لحق بي إذ ركضت يومها إلى المسجد القريب لأطلب من خادم المسجد أن ينادي ويُسمع الناس أن ابني قد أصبح بجوار ربه، فاعتقلوه قبل أن يكمل طريقه ورائي. كيف سيهدأ بالي وأنا لا أعرف عنهم شيئاً إلا أنهم بين أيدي أناسٍ لا يخافون الله. جلست أم الشهيد والدمعة لم تغادر خديها ولسان حالها يقول: «اللهم انتقم لشهداء سوريا..وتقبل أحمد مع الشهداء…وفرج عن المعتقلين وردّهم إلى أهليهم سالمين من كل أذى وبلية…»
أم أحمد.. أم المؤمنين… جسّدت في ثورة كرامتنا مثالًا للأم الصابرة التي تلوك الهموم بين أسنانها، مقابل ألا تمسَ يد الظالمين شعرةً من أبنائها، فلم تغب عن الاعتصامات النسائية التي تقوم بها حرائر داريا. في أحد الاعتصامات أمام المحكمة للمطالبة بالمعتقلين، وقفت الأم كصخرةٍ عاتيةٍ حتى أمام رصاص ميليشيات جميل حسن، وفي كفها صور أبنائها المعتقلين الأربعة، وعلى كتفها نعشها، إذ جالت الرصاصات أمامها، وهي تقول: «بدنا المعتقلين» فما كان من أحد العناصر إلا أن قام برمي صور أبنائها أرضًا وداسها بقدميه، لتصرخ الأم صوتًا زلزلَ الشارعَ يومَها، ووقفت كل النسوة والحرائر يُمسكن بيديها ويُقبلنها إذ استلهمن يومها من ثباتها قوةً أعانتهن حتى على مجابهة رصاص الأمن.
صديق أحمد يخفي دمعته متحسرًا «كنتَ يا أحمدُ خفيًّا، ومت مشهورًا! تعمدت عدم نشر صورك في حياتك، وها أنا أراها اليوم بعدك في كل موقعٍ، وفي كل عينٍ وفي كل قلبٍ!
علوٌّ في الحياة وفي الممات! بحقٍّ أنت إحدى المعجزاتِ! وحدهم الأبطال يُقتلون! وحدهم – صدقني– من يُطاردون، وتُعلن أسماؤهم، وتُنشر صورهم، وتُلفّق لهم التهم والأكاذيب، وحدهم الأبطال الخالدون هم من يُطلبون (أحياءَ) أو (مقتولين)».