حنين النقري – دوما
لعلّ من أجَلِّ بركاتِ الثورة علينا، بالإضافة لحرية الرأي وإطلاق الفكر وكسر القمقم وتمحيص الناس، أنها عرّفتنا على شهرٍ جديدٍ لم نعرفه قطّ… وللمصادفة المحضة، اسمه رمضان!!
لا تفرك عينيك أوتضع نظارتك، ليس خطًأ مطبعيًا. أجل رمضان، فجميع الـ «رمضانات» التي «صُمناها» على مرّ أعوام حياتنا -كثرت أم قلّت- لم تنجح بتعريفنا بهذا الشهر الفضيل كما فعلت الثورة..
رمضان، الشهر الذي يفترض أنّ من أهم دروسه تعويد النفس على الحياة بأقل مما اعتادت عليه… وجبتان تسدّ بهما الرمق وتبثّان فيك حياةً كنت تظن أنها لن تكون إلا بالمزيد والمزيد.
«أنت قادرٌ على العيش مع الأقل» لطالما همس لنا رمضان بذلك، وفي كل عامٍ يكرر لنا الدرس نفسه مع أنفاس السحر، لكن أنّى لمن جعل من رمضان سِباقًا مهووسًا للعيش مع الأكثر بكل المقاييس -يختلف فقط توقيت تناول هذا الأكثر- أن يصغي؟
العيش مع كمّيةٍ أقلَ من الطعام والشراب، كسرُ النمط الذي اعتدته من شوال الفائت حتى أول يومٍ من رمضان الحالي، تجربةٌ تدعوك وتحتاج منك أن تتفكر مليًّا في كل ما أنت متشبّثٌ به، ما تظنّ أنك لاتستطيع أن تحيا إلا به، وتسأل نفسك: «هل أستطيع أن أكمل حياتي من دونه؟!! هل أستطيع أن أحيا مع القليل منه، كما أواصلُ حياتي اليوم بوجبتين فقط؟»
اليوم، بمقارنةٍ بسيطةٍ بين أسلوب حياتنا قبل الثورة وبعدها، ندرك تماما أننا بتنا أقرب لأن نفهم رمضان بالشكل الذي يحاول أن يشرحه لنا عن نفسه كل عام..
رمضان قبل الثورة: يكون الاستعداد له بتنظيف و «تعزيل» المنزل من قبل ربّات البيوت، فيما يكون التسوّق وإتخام الثلّاجة بأنواع الأجبان والألبان واللحوم والخضراوات والفواكه والعصائر والمنكهات والبهارات… يكون ذلك كلُه من نصيب ربّ الأسرة (ومن نصيب جيبه المنهك أيضًا). ثم موائد رمضان، الإفطار فيها يشبه الوليمة الملكية، فلا تكاد تخلو مائدةٌ سوريّةٌ من الكثير والكثير من أصناف التمور والعصائر ثم المقبّلات والسلطات والشوربات، ثم وجبة رئيسية (أو أكثر) والتي قد ترمى في القمامة كما هي لأن بطون «الصائمين» أُتخمت قبل أن تمتد إليها الأيدي، السهرة والفواكه والحلويات والموالح، وبعد ذلك السحور الأشبه بالإفطار بأطايبه، لنبدأ نهارًا جديدًا بتثاؤبٍ عقب سهر ليلٍ طويلٍ يتبعه «تصبحون على خيرٍ» ونومٍ لما بعد الظهيرة… ويضاف لذلك كله المسلسلات الرمضانية بالطبع!!! وياسبحان الله، فرمضان لا يكتمل إلا بها. هكذا كانت صورة رمضان قبل الثورة، وقد تختلف قليلًا، من خلال فاصلٍ منشّطٍ في المسجد ﻷداء بضع ركعاتٍ من صلاة القيام تجعلنا نهضم بعض ما تناولنا… لنعود للبيت ونكمل السباق.
رمضان أثناء الثورة: الاستعداد له يكون بالدعاء أن نعود من النزوح إلى البيت ولا زال صالحًا للسكن. لملمةُ الزجاج المكسور وشراء ربطة خبز بشقّ النفس، وربما تتقاسمها على السحور مع جارك بكل طيب خاطر. الإفطار على طبقٍ واحدٍ تحمد الله أن وهبك إياه. وعندما تذكرُ من لا يضمّه بيتٌ ولا تُسكت جوعَه مائدة تنهمر دموعك حزنًا عليه وشكرًا لله. وإذا ما تنقلت بين قنوات التلفاز، ومررت بمسلسلٍ من الدراما السورية، تشمئز نفسك من قدرتهم على تمثيل دور النخوة وهم لا يمتّون لها بصلة، وتتوقف عند أقرب قناةٍ إخبارية لتشاهد مسلسلك اليومي الخاص!! وبعد ذلك سحورٌ خفيف يقوّيك ويقيم صلبك، بكل حمدٍ وشكرٍ لله.
قد يقول البعض أننا نعيش هذا النمط «اضطراريًا» في ظل الثورة، تعاطفًا مع شعبٍ منكوبٍ، وتقشّفًا ننتظر النصر لنزيحه عن كواهلنا ونعود لنمط الاستكثار والإسراف من جديد. قد يكون ذلك… ولكن لم لا نجعل هذا النمط الرمضاني الحقيقي الذي لم نشعر به ولم ندرك حقيقته ولم نحسن فهمه إلا اليوم؟؟ لم لا تمتد يد التخفف والإقلال إلى كل ما هو غيرُ ضروري في حياتنا لنتقاسمه ونتشاركه مع من يحتاجه بحبٍ فترتسم البسمة على ثغرنا قبل أن ترتسم على ثغر من يحتاجه…
قبل أن أنسى… وكما نقول عادةً لمن تعرفنا عليه للتو: «رمضان الثورة… فرصة سعيدة، تشرّفت بمعرفتك».