إبراهيم العلوش
احتفل العالم بمرور 100 عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني، وهي الحرب المشهورة في العالم العربي بحرب السفر برلك، وقد اجتمع في باريس أكثر من 70 رئيس دولة وملكًا، تعزيزًا للحظة وقف تلك الحرب في مثل ذلك اليوم.
في أواخر أشهر الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) امتنع بعض الجنود الألمان، وبعض الجنود الفرنسيين على الجبهة، عن إطلاق النار على بعضهم، وبدؤوا يستهزئون بأوامر قادتهم الغارقين بروح الانتقام، والمأخوذين بلعبة الموت، وصاروا ينظمون ألعاب كرة القدم بينهم، ويزورون بعضهم بعضًا على خط النار، فقد سئم الجنود من الموت، ولم يعودوا آبهين بأوامر القيادة التي تهددهم بالإعدام. لقد فرضوا السلام وأوقفوا الحرب.
هل يحتذي محاربو النظام في سوريا حذو جنود الحرب العالمية الأولى، ويوقفون الحرب على السوريين، وينهون مآسي تهجيرهم، هل تتوقف حاضنة النظام الأسدي عن تبرير القتل والتعذيب، وتكف عن تمجيد استعمال البراميل والكيماوي ضد أبناء بلدها، أم أن أمر هذه الحاضنة لم يعد لها، وصار للروس، وللإيرانيين، الذين اعتبروا سوريا، والسوريين، أسرى لهم، وأداة للّعب الدولي؟
وهل يتوقف تجار الدين من داعش، والنصرة، ومن والاهم، عن النفخ في سعير هذه الحرب، والكف عن تكفير السوريين، وعن الاستمتاع بتهجيرهم باسم الدين والدين منهم براء؟
حاولت الدولة التركية المتحالفة مع الألمان، قطع طريق الهند على البريطانيين، فشنت حرب الترعة، وجندت السوريين واللبنانيين في عام 1915، لكن الجنود غير المدربين وغير المؤهلين هلكوا في الطرقات وفي الصحارى، ولم تصل منهم إلا أعداد قليلة، إلى قناة السويس، والإنكليز كانوا لهم بالمرصاد، وبكامل عتادهم الحربي، وقتلوا من وصل إلى مدى نيران سفنهم في القناة، وقد ضاع عدد كبير من السوريين الذين فروا حتى وصل بعضهم إلى اليمن مشيًا على أقدامهم في الصحارى!
بعد هذا الفشل تحول تسفير السوريين إلى جبهات متعددة في شمال تركيا، وفي أوروبا الشرقية، وحاربوا في معارك لا يعرفون من هو عدوهم فيها، ولا لماذا يحاربونه، فقد كان الضباط الألمان يقودون القطعات التركية، ويوجهون أرتال الجنود المأخوذين من بيوتهم قسرًا، أولئك الجنود الجياع والمتعبون الذين وصل غالبيتهم من بلداتهم في سوريا ولبنان مشيًا على الأقدام، ولا يجدون ما يأكلون أو يشربون إلا ما تيسر من العشب، أو ما يتم نهبه من الأهالي.
هذه الحرب الكبيرة مزّقت ما تبقى من الدولة التركية، فحينها كانت الإمبراطورية العثمانية قد سقطت، واستولى القوميون الأتراك على إرث الرجل المريض، كما كانت تدعى طوال النصف الأخير من القرن التاسع عشر.
وكان من نتائج هذه الحرب الكارثية توقيع معاهدة سايكس بيكو عام 1915 بين الفرنسيين والإنكليز، والتي كانت تنص على اقتسام العالم العربي بينهما، في نفس الوقت الذي كان فيه الشريف حسين أمير مكة يتغنى بوعود السفير البريطاني في مصر (مكماهون)، وينتظر قيام الدولة العربية الكبرى في المناطق العربية التي كانت بحوزة الدولة العثمانية.
ومن نتائج هذه الحرب أيضًا موجات الجوع التي طالت أكثر من مليون ونصف المليون إنسان في بلاد الشام، والهجرة الكبيرة من سوريا ولبنان إلى أمريكا الجنوبية والشمالية، هربًا من الجوع، ومن الظلم، ومن انعدام الأمان. وخسرت سوريا ولبنان الكثير من شبابها في هجرات مأساوية، فقد كانت الرحلة تستغرق أشهرًا عديدة، وتصل إلى ستة أشهر للوصول إلى البرازيل، أو الأرجنتين، أو غيرهما من البلدان التي امتلأت بالسوريين، ولا تزال الجاليات السورية واللبنانية فيها ذات أثر لا يستهان به إلى اليوم.
اجتمع رؤساء العالم في باريس للاحتفال بالسلام، حضروا مؤتمرًا للسلم العالمي، وكان على رأس المجتمعين الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية، اللذان كانت دولتاهما متحاربتين طوال النصف الأول من القرن العشرين، وكانتا مسرحًا دمويًا للحربين العالميتين.
وأجرى الرؤساء والملوك لقاءات ثنائية وثلاثية وجماعية فيما بينهم، ولعلهم باعوا الكثير من الأسلحة لقادة العالم الثالث الذين أتوا يتبخترون، وكأنهم أنصاف آلهة، رغم الفشل الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي في بلدانهم، بينما تجد القادة الأوربيين يتحركون ببساطة، مؤمنين بأنهم عابرون على كراسي السلطة، ولا يقبلون الاستمرار بالقوة، ولا بإجبار شعوبهم على إعادة انتخابهم، بينما الملوك والقادة الديكتاتوريون يقلبون وجوههم ويصطنعون العظمة الزائفة.
في نهاية الحرب العالمية الأولى احتل الجنود الفرنسيون والبريطانيون والإيطاليون مدينة اسطنبول (1918- 1923)، وقبلهم كان الروس يعتبرون اسطنبول مدينة تابعة لهم، لوجود الكنيسة الأرثوذكسية فيها، ولكن الأتراك، ووفق الوصفة المجرّبة للخلاص من الاحتلال والنفوذ الأجنبي، هبوا بوجه الاحتلال بمقاومة شعبية منظّمة، وطردوا المحتلين منها، وحرروا البوسفور ومجمل الأجزاء التركية، وأنشؤوا خريطة تركيا الحديثة.
العالم يستنكر الحرب، ولكنه يشاهدها ببرود وهي تحصد السوريين، وقادة العالم يجتمعون من أجل السلام وتثبيته، بينما القتل والتهجير أمامهم في سوريا على أشدهما، فقد طال السفر برلك الأسدي أكثر من نصف الشعب السوري وطال حتى حاضنته المؤيدة له.
فهل يساعدنا العالم على إرساء السلام في بلدنا؟
وهل نتساعد كسوريين من أجل وقف هذه الحرب الظالمة ضد شعبنا، ونوقف حاضنة الاستبداد الأسدي، وحاضنة التطرف الديني عند حدهما؟