إبراهيم العلوش
شهدت الرقة حدثًا مهمًا في الثاني من شهر تشرين الثاني الحالي، هو مقتل الشيخ بشير الفيصل الهويدي، فقد وجد مقتولًا في سيارته بالرقة بعدة طلقات أطلقت عليه عن قرب، ربما من داخل سيارته، حيث كان الجاني يجلس بقربه، ووجدت عدة طلقات في المكان مع جثة الشهيد المدماة.
الرقة محكومة من قبل ما يدعى بـ “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، والتي أشرفت على تدمير 80% من المدينة عبر الإرشاد العشوائي للطائرات الأمريكية التي كانت توزع الموت والدمار في أرجاء المدينة، وقتلت حوالي ستة آلاف من مدنييها الذين بقوا فيها، سواء من أهل المدينة، أو من النازحين إليها، والذين تقطّعت بهم السبل. وانتهت قبل أكثر من عام صفقة التوافق على خروج داعش بقافلة محمية من قبل “قسد” نفسها، ومن قبل الأمريكيين، وقد صوّرت محطة البي بي سي البريطانية القافلة الخارجة من الرقة لقوات داعش، وبطول سبعة كيلومترات، باتجاه دير الزور والبادية السورية، ونشرت المحطة شهادات وتفاصيل تدين هذه القوات التي أسهمت بتدمير الرقة مع قوات التحالف الدولي.
الشيخ بشير الفيصل من الوجهاء الذين ظلوا في الرقة، وحاولوا إيجاد صيغة محلية لحكم الرقة من قبل أبنائها، والتخفيف من سطوة البي كي كي القادم من جبال قنديل، وقد حاول مع وجهاء آخرين، تمكين لواء ثوار الرقة الممثل للقوى العربية التي أسهمت بتحرير الرقة من الإرهاب الداعشي، دون أن تتورط في شبكة الإرشاد العشوائي الذي دمر المدينة. لكن قوات “قسد”، هذه المتمترسة خلف الدعم الأمريكي، رفضت أي صيغة محلية لحكم الرقة، فقد تركت جثث الموتى من الأهالي المغدورين تحت الأنقاض، وملأت الساحات بصور زعيمها الروحي عبد الله أوجلان مسترشدة بطريقة حليفه السابق حافظ الأسد. على الجدران تجد الصور والمقولات التاريخية، وفي الأرض تنتشر المخدرات ويزرع الحشيش أمام عين “القوات”، وربما بإشرافها، في ظاهرة باتت مشهودة، يؤكدها من زار المدينة.
ليس العداء لهذه القوات ناشئًا من كون هذه القوات كردية في قيادتها وفي أغلبية مقاتليها، فقد كان الكرد يؤلفون حوالي 5% من سكان الرقة، ومعظمهم من أبناء المحافظات السورية الحدودية مع تركيا، ولم يكن أحد من أهل الرقة يكنّ للكرد أي كراهية، بل إن الكثير من العائلات تربطها بالكرد علاقات نسب وشراكات زراعية وتجارية، وحتى المرحوم بشير الفيصل الهويدي يعود جزء من نسبه إلى عائلة كردية من الشمال السوري. ولكن السبب هو علاقة الهيمنة وطريقة الحكم التي تشبه حكم النظام الأسدي، شريك عبد الله أوجلان طوال عقود، حيث كانت قواته تتدرب في سوريا، وفي لبنان أيام هيمنة الجيش السوري على بيروت.
ومثلما قتل ناشطو الثورة وشبابها من قبل داعش، قتل الشهيد بشير الفيصل تحت أعين قوات (قسد) المشغولة بطباعة المزيد من صور ومقولات عبد الله أوجلان، هذه القوات متهمة بالتآمر على قتله، بسبب مواقفه المعادية لإقصاء قوات ثوار الرقة، وترحيل قادتها إلى القامشلي في إقامة جبرية تشبه السجن.
قوات “قسد” تحكمت بالشمال السوري وأقصت حتى القادة الكرد من الأحزاب السورية الكردية، وفرضت عليهم الانصياع لقادة جبال قنديل، الذين يتم استعمالهم كأوراق لعب مشبوهة بين الدول الإقليمية: إيران، والعراق، وسوريا، وتركيا، والدول غير الإقليمية مثل فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، وأمريكا، وهذه القوات تثير موجات من العداء بين شعوب هذه المنطقة المتوترة، فالعنف والإرهاب هي وسيلتها للتعامل مع الدول، والشعوب، رغم أن القضية الكردية في العقود الأخيرة نالت الكثير من التأييد من قبل العرب، وخرجت من كونها محتكرة من قبل الأنظمة الحاكمة التي كانت تحتكر أيضًا حرية العرب والتركمان وغيرهم من المكونات.
صدرت الكثير من البيانات من قبل أهل الرقة ومثقفيها، ومن قبل عشائرها التي تندد بقتل أحد وجهاء الرقة، ورفضت عائلة الشهيد استقبال المدعوة ليلى مصطفى مندوبة الاحتلال، ولم تقبل التعازي من قبل القتلة الذين يمشون في جنازة القتيل.
“قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) مسؤولة عن قتل الشهيد، وعن فبركة البيانات المتناقضة التي تشير إلى داعش والتي تركت الرقة قبل أكثر من سنة، بصفقة مع “قسد”، وصارت داعش شماعة لتعليق الأخطاء والتجاوزات بحق أهل الرقة ونازحيها السوريين، وخاصة من يتوجه بالنقد ضد ممارسات قوات الاحتلال القنديلية، وضد طريقتها في الحكم التي تشبه طريقة الأنظمة الديكتاتورية القائمة على مقولة الأب القائد، والشعب الذي يتوسل رضا القائد الملهم الذي لا تأتيه الأخطاء لا من فوقه ولا من تحته.
مقتل الشهيد بشير الفيصل الهويدي قد يكون مؤشرًا لقتل المزيد من وجهاء الرقة في المستقبل، ورسالة لمهجري الرقة ونازحيها بعدم العودة إلى بيوتهم، ومدينتهم المحتلة، وقد استعملت داعش هذه الطريقة، ويستعملها النظام في المدن الأخرى، سواء بقتل العائدين، أو حجز أملاك المهجرين. وكما أسهمت إيران بإفراغ سوريا من أجل توطين ميليشياتها فيها، فإن قوات جبل قنديل قد تفكر بتهجير قادتها ومقاتليها إلى الرقة وإلى شرق الفرات، لجعلها منطلقًا لحروب لا تعني أهل الرقة، ولا أهل الفرات بشيء، فأوجلال المسجون في تركيا، تحول قادته إلى سجانين في الرقة، وفي شرق الفرات، وصاروا مصدرًا للإرهاب، بدلًا من أن يكونوا مصدرًا لنشر التآخي العربي الكردي، والتعاون في نشر السلام، وإعادة بناء سوريا الجديدة على أسس العدل والمواطنة، ونبذ التعصب الديني والقومي الذي لا يزال يدمرنا جميعًا.