نور عبد النور | رهام الأسعد | حلا إبراهيم | ضياء عودة
يحتاج الشرطي حسان علي اليونس مبلغ 150 دولارًا (71000 ليرة سورية) شهريًا ليغطي الاحتياجات الأساسية لعائلته المكونة من سبعة أشخاص، لكنه لا يجني منها شيئًا، بحسب قوله، بل يعتمد على عمل ابنه الشاب في معمل بلاط ضمن بلدتهما، حاس، في ريف إدلب.
“كنا نتقاضى راتبًا شهريًا يسد احتياجات المعيشة في ظل ارتفاع الأسعار، وبعد توقيفه أصبحت الديون تتراكم علينا”، يقول حسان لعنب بلدي، واصفًا الوضع المعيشي لعائلته بأنه “تحت الصفر”.
كان حسان واحدًا من 3000 عنصر من أفراد الشرطة الحرة تضرروا نتيجة تقليص الدعم الممنوح للجهاز، بقرار من الحكومة البريطانية نهاية العام الماضي، على خلفية تحقيق نشرته قناة “BBC” البريطانية، قالت فيه إن أموال المساعدات الخارجية البريطانية، “تذهب إلى متشددين في سوريا”.
يضيف حسان لعنب بلدي، وهو شرطي منشق عن النظام، “لم أعمل أي عمل سابق وكنت متفرغًا للعمل بالشرطة الحرة ولخدمة أهلنا المواطنين”، وكونه لا يجيد أي مهنة أخرى، على حدّ تعبيره، واجه مصاعب كبيرة بعد توقيف الراتب الشهري.
“عدم توفر الأعمال الحرة، وكثرة اليد العاملة، والبطالة في مناطق سيطرة المعارضة”، أسباب دفعت حسان للتمسك بعمله رغم عدم حصوله على مقابل ماديّ، إضافة إلى حبه الكبير لـ “حل قضايا المواطنين والسهر على خدمتهم وراحتهم”، لكنه لا يستبعد أن يسعى للحصول على عمل جديد في حال استمر توقف الدعم.
الحكومة البريطانية كانت اتخذت خطوات عديدة عقب تحقيق “BBC”، أثرت غالبيتها سلبًا على دعم الشرطة الحرة، إذ رفعت الحظر عن دعم الجهاز مع بداية العام الحالي، لتعود في أيار الماضي وتبلغ الشرطة الحرة بـ “توقف الدعم”، وفق ما قاله مدير الجهاز في حلب، العميد أديب الشلاف، في لقاء سابق مع عنب بلدي.
قاد ذاك البلاغ الشرطة الحرة إلى “جدال مع مسؤولين بريطانيين وأمريكيين”، بحسب الشلاف، أفضى إلى تمديد الدعم لمدة ثلاثة أشهر، وبحلول شهر آب الفائت أعلنت بريطانيا إيقاف تمويل بعض برامج المساعدات في مناطق سيطرة المعارضة في سوريا، بينها جهاز “الشرطة الحرة”.
متحدثة باسم الحكومة بريطانية قالت حينها في بيان إلكتروني لوكالة “رويترز”، “بعد أن أصبح الوضع على الأرض في بعض المناطق صعبًا على نحو متزايد قلصنا دعم بعض برامجنا غير الإنسانية”، لكن رغم ذلك ارتبطت شرارة وقف الدعم الأولى بمخاوف “الارتباط بالإرهاب”.
جهاز الشرطة الحرة الذي تأسس نهاية عام 2012 في محاولة لضبط الأمن في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام السوري، لم يكن المتضرر الوحيد من سياسات تقليص الدعم المرتبطة بمخاوف تتعلق بالإرهاب، أو التي تتخذ من هذه المخاوف وسيلة لتبرير خفض أموال الدعم.
منظمة “سامز” الطبية، ومرافق صحية في ريف حماة، ومجالس محلية في إدلب، وغيرها من الجهات المدنية تأثرت بتلك المخاوف، وخسر إثر ذلك المئات من العاملين في القطاع الطبي وفي قطاع الإدارة المحلية ضمن مناطق سيطرة المعارضة مصادر دخلهم.
فعائلة الشرطي حسان علي اليونس تعيش اليوم على مبلغ 75$ (35000 ليرة سورية) شهريًا بشكل وسطي، يجنيها ابنهم الشاب من العمل في معمل البلاط، ويخشى الوالد أن ينخفض هذا المبلغ مع دخول فصل الشتاء وتراجع عمل ورشات ومعامل البلاط.
رغم ذلك لا يزال لدى حسان أمل بتوفر جهة داعمة جديدة تعيد لجهاز الشرطة الحرة فعاليته، إذ يرى أن توجه أفراد الشرطة إلى مهن وأعمال أخرى “سوف ينعكس سلبًا على عمل الجهاز، وقد يؤدي في المستقبل القريب إلى التقصير بواجباتنا بخدمة أهلنا وتحقيق الأمن والأمان لهم”.
مشاريع توقفت وأخرى مهددة..
“مظاهر التسلح” هاجس المجتمع المدني
منذ أن دخلت الحرب السورية ضمن دوامة “الإرهاب” يروج الغرب لمساعيه في محاربة مصادر تمويل التنظيمات المتشددة في سوريا، لتصطدم تلك الدول بهواجس الوقوع، هي ومؤسساتها، في موقع الاتهام بتمويل تلك التنظيمات، عبر دعمها لمنظمات مدنية قد تقع بأيدي فصائل مسلحة، أو قد يذهب تمويلها إلى المسلحين.
حوادث عدة شهدتها الحالة السورية أثبتت أن الدول والمنظمات الغربية، الداعمة للمشاريع الخدمية في الداخل، لن تتوانى عن قطع ذلك الدعم على حساب عدد المدنيين المتضررين، بدعوى النأي بالنفس عن تهم دعم الإرهاب.
وفي إطار ذلك، سعت المنظمات العاملة في سوريا إلى اتخاذ إجراءات بوجه سلطة الأمر الواقع، محاولة النأي بنفسها عن العسكرة والسياسة، مطالبة بتغييب المظاهر المسلحة عن مشاريعها الموجهة بالأساس للمدنيين المستضعفين، لكن تلك الإجراءات لم تكن ناجعة بالضرورة، وفرض الواقع العسكري نفسه على كثير من قطاعات العمل المدني.
تحييد عن الصراع.. حين اختلطت العسكرة بالخدمات
في 29 من تشرين الأول الماضي انتشر تسجيل مصور على مواقع التواصل الاجتماعي يُظهر مجموعة تابعة لـ “هيئة تحرير الشام” داخل مستشفى للجمعية الطبية السورية الأمريكية (سامز)، في بلدة كفر حمرة بريف حلب الغربي.
المثير للجدل في التسجيل هو ظهور والد القيادي في الهيئة، أمين نعسان (أبو التراب الشرعي)، وهو مسلح في عتاده الكامل، فيما ظهر ضمن كادر الفيديو شعار “سامز”، التي سارعت إلى إصدار بيان أكدت فيه أن مجموعة مسلحة دخلت أحد مرافقها الطبية بريف حلب بعد وصول جريح يتبع لتلك المجموعة إلى المستشفى.
وأشارت إلى أن حرس المستشفى، بسلاحه الخفيف، لم يستطع منع الجماعة من الدخول، حيث استعان بالسلطات المحلية التي أخرجت المسلحين خلال ساعات.
إجراءات عدة اتخذتها “سامز” عقب الحادثة، كي لا تؤثر بشكل أو بآخر على الدعم المقدم لمرافقها الطبية، الموجهة بالأساس للأهالي المدنيين، بحسب ما قال مدير مكتب الجمعية الطبية في إدلب، محمد تناري.
وأضاف تناري، في حديث لعنب بلدي، أن الجمعية اتخذت إجراءات عدة طالبت فيها بتحييد مرافقها عن المظاهر المسلحة، وذلك بالتنسيق مع المجالس المحلية ومديرية الصحة في إدلب، لمنع تكرار حوادث مماثلة.
وتابع، “أبلغنا المعنيين بأن أي حادثة مشابهة قد تقطع الدعم عن المرافق الطبية التابعة لنا، وللأسف ستكون الفئة الأكثر تضررًا هي المدنيين والفقراء”.
تناري استدل في توقعه على حالات انقطع فيها الدعم عن مرافق طبية في مناطق المعارضة السورية، ومن بينها توقف أربعة مراكز طبية في منطقة سهل الغاب بريف حماة الغربي عن العمل، مطلع الشهر الحالي.
إذ قال إبراهيم الشمالي، المسؤول الإعلامي لمديرية صحة “حماة الحرة”، لعنب بلدي، إن المشاريع التي توقفت تتبع لعدة منظمات من بينها “ريليف إنترناشونال”، مشيرًا إلى أن أسباب انقطاع الدعم “غير واضحة” حتى الآن.
وينتشر في سهل الغاب عناصر يتبعون لـ “هيئة تحرير الشام”، الموضوعة على قوائم الإرهاب في تركيا وأمريكا، إذ تسعى منظمات المجتمع المدني هناك إلى تحييد نفسها عن الفصائل المسلحة، منعًا لانقطاع الدعم عنها.
“هيئة تحرير الشام” على قوائم الإرهاب
على مدار ثلاث سنوات من نشاطها في سوريا، صنفت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وتركيا “جبهة النصرة” بأنها منظمة إرهابية، وهو ما أقره مجلس الأمن في أيار 2013.
وفي محاولة منها لتفادي هذا التصنيف، فكت “النصرة” ارتباطها بالقاعدة، في تموز 2016، وغيرت مسماها إلى “فتح الشام” ثم انخرطت في “هيئة تحرير الشام“، لكنها لم تفلح بتغيير تصنيفها، إذ أصرت واشنطن على وضعها على قوائم الإرهاب، وقالت الخارجية الأمريكية إن “تحرير الشام” مصنفة إرهابية بغض النظر عن مسماها ومن يندمج معها.
وقبيل هجوم محتمل في إدلب، في آب 2018، أفاد مرسوم صادر عن رئاسة الجمهورية التركية أن الهيئة “جماعة إرهابية“، وأضافها المرسوم إلى الهيئات والأفراد التي تجمد أرصدتهم بسبب صلات بتنظيمي “القاعدة” و“الدولة الإسلامية“.
التجمع السكني في أطمة.. هل يكون عبرة؟
تجسد تأثير المظاهر المسلحة على توقف المشاريع الخدمية شمالي سوريا بصورة واضحة في حادثة “تجمع عطاء السكني”، الذي استولت عليه هيئة تحرير الشام، في آب الماضي.
وفي تفاصيل الحادثة، اتهمت جمعية “عطاء الإنسانية” إدارة شؤون المهجرين التابعة لحكومة الإنقاذ بالاستيلاء على التجمع السكني الثاني في بلدة أطمة بريف إدلب الشمالي، “دون مراعاة موافقتها أو ملكيتها”.
وأضافت في بيان أصدرته فور وقوع الحادثة أن “هيئة المهجرين” اقتحمت التجمع واستولت على أكثر من نصف وحداته السكنية، وقامت بخلع الأبواب وإسكان عوائل من مهجري القنيطرة ودرعا، ما أدى إلى نشر الفوضى والاستيلاء على كامل التجمع السكني، فضلًا عن دخول عناصر مسلحين إلى التجمع.
ولم تعلق “حكومة الإنقاذ” على الاتهام الموجه لها من قبل الجمعية الإنسانية، إلا أن “عطاء” قالت إن إدارة شؤون المهجرين اعتذرت عن عدم إعادة التجمع من جديد، بدعوى أن الأمر خرج من أيديهم.
وكانت “عطاء” أعلنت في آذار الماضي عن إطلاق مشروع تجمع سكني، يستهدف النازحين إلى المنطقة، بحيث يكون بديلًا لهم عن المخيمات، على أن يتسع لقرابة 750 عائلة إلى جانب التجمع الأول الذي يضم 520 عائلة حاليًا.
ورغم أن “عطاء” لم تقر صراحة بانقطاع الدعم عن مشروعها، نوهت في بيانها إلى أن مثل هذه التدخلات سوف تؤثر على النشاط الإغاثي في المنطقة وتهدد بانقطاع الدعم عن المحتاجين له، كما أنها قدمت شكوى إلى دار القضاء، محملةً إدارة شؤون المهجرين المسؤولية الكاملة عن تبعات الموضوع.
ولا يزال المشروع معطلًا حتى اليوم، وسط مفاوضات تجريها الجمعية مع المسؤولين للتوصل إلى اتفاق من شأنه حل المشكلة، بحسب ما قال مسؤول في جمعية “عطاء”، فضل عدم ذكر اسمه، لعنب بلدي.
حكومة الإنقاذ.. جدار سياسي يحجب المال عن المجالس المحلية
في تشرين الثاني من العام 2017 تشكلت حكومة الإنقاذ في مدينة إدلب، لتزاحم الحكومة المؤقتة على العمل السياسي والمدني في المنطقة، لكن تشكلها بدعم من “هيئة تحرير الشام” ربطها بـ “منظمة مصنفة إرهابيًا”، الأمر الذي انعكس سلبًا على سياسات الدعم الدولي للمشاريع المدنية في إدلب.
مظهر شربجي: 50-60٪ من المجالس المحلية في إدلب تراجع دعمها بعد سيطرة حكومة الإنقاذ |
مدير الحوكمة وبناء القدرات في وحدة المجالس المحلية في الحكومة السورية المؤقتة (LACO)، مظهر شربجي، تحدّث لعنب بلدي عن الأضرار التي لحقت ببعض المجالس المحلية في إدلب عقب سيطرة حكومة الإنقاذ.
وقال شربجي، “الجهات الداعمة تتعامل مع المجالس المحلية المعتدلة التي تتبع للحكومة المؤقتة، والتي تحظى باعتراف دولي، وبوجود حكومة الإنقاذ، امتنعت الجهات الداعمة عن توصيل الدعم لأي مجلس لا يتبع للحكومة المؤقتة”، مضيفًا “المنظمات لديها قوائم رفض (فيتو) لبعض المناطق التي تسيطر فيها حكومة الإنقاذ”.
ويقدر شربجي نسبة المجالس المحلية المتضررة في إدلب بين 50 و60٪ من المجالس في إدلب، أي حيث تسيطر حكومة الإنقاذ، ويرى أن الداعمين يتخوفون من استيلاء “الإنقاذ” على الأموال التي يمكن أن تقدم للمشاريع الإنسانية وتوجيهها في أمور أخرى.
الباحث في مسار الإدارة المحلية في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، أيمن الدسوقي، يوافق شربجي في أن المجالس المحلية تأثرت بعد تشكل حكومة الإنقاذ، وأن الدعم للمجالس التي باتت تتبع لها أو المجالس الواقعة في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام قد تراجع.
لكنه اعتبر في لقاء مع عنب بلدي أن “تراجع الدعم سمة عامة قبل أن يتم الإعلان عن حكومة الإنقاذ، وذلك ضمن سياسية الجهات الداعمة إعادة النظر بسياساتها في منطقة الشمال، وتحول نمط دعمها من التعامل مع المجالس إلى تفضيلها التعامل من خلال منظمات مجتمع مدني”.
ومن وجهة نظره، فإن “الهيئة وحكومة الإنقاذ هما حجة، إذ يرتبط الأمر بضغوط تمارس ضمن سياق التفاوض السياسي والعلاقات بين الدول”.
توقف الدعم.. تغير سياسيات أم تخوف من “الإرهاب”
تغيب الأسباب الواضحة عن توقف دعم بعض المنظمات الإنسانية لمشاريعها في الشمال السوري، لكن ورغم ذلك قد تعطي بعض الوقائع على الأرض أجوبة من شأنها إعطاء صورة قريبة للواقع الصحيح.
كنقطة أولى لا يمكن إغفال الظرف والتوقيت الذي تزامن معه إيقاف الدعم، إذ مع تقدم النظام السوري عسكريًا وتمكنه من استعادة معظم الأراضي التي خسرها لصالح المعارضة منذ عام 2011، انحصر عمل المنظمات في محافظة إدلب والمناطق المحيطة بها في ريفي حلب الغربي والجنوبي وريفي حماة الشمالي والغربي وصولًا إلى ريف اللاذقية الشمالي.
وبموازاة الأمور المذكورة، اختلف المشهد السياسي مع اختلاف الوضع العسكري، سواء من ناحية مواقف بعض الدول التي تغيرت تصريحاتها بشكل تدريجي عما أعلنته في السنوات الأولى للثورة، أو من جهة التعامل مع الجهات المسيطرة على الأرض، والتي تتصدرها في إدلب “هيئة تحرير الشام” المصنفة على قوائم “الإرهاب” الدولية.
يرى قائد الشرطة الحرة في الشمال، العميد أديب الشلاف أن توقف الدعم عن الجهاز الذي يرأسه، يرتبط بسياسة الدول الداعمة، باعتراف الجهات المنسقة والتي تتولى التواصل والتشبيك.
ويقول لعنب بلدي إن “الشرطة الحرة” كانت على تواصل واجتماعات مستمرة مع الجهات الداعمة، وفي أثناء تبليغها بتوقيف الدعم طلبت استفسارًا عن الأسباب التي استدعت ذلك، “ورغم المراوغة التي كانت في البداية، تم تركيز الحديث فيما بعد على سياسة الدول والحكومات، وبررت المنظمات أنها لا تقدر على فعل أي شيء”، بحسب تعبيره.
تتلقى “الشرطة الحرة” دعمها من خمس دول، أبرزها بريطانيا وأمريكا عن طريق مكتب “فض النزاع”، وكان قرار توقف الدعم قد تزامن مع حديث دار حول مصير محافظة إدلب، سواء بدخول الأتراك إليها ودمجها مع المناطق التي تديرها في الشمال كريف حلب الشمالي، أو دخول قوات الأسد إليها على غرار المناطق الأخرى.
وجاء أيضًا بعد التحقيق الذي نشرته شبكة “BBC”، والذي تحدثت فيه عن أن أموال المساعدات الخارجية البريطانية، “تذهب إلى متشددين في سوريا”.
ويستبعد الشلاف أن يكون قرار إيقاف الدعم بسبب المخاوف من “الإرهاب”، ويوضح أن موضوع “الإرهاب” طرح خلال الاجتماع مع الجهات الداعمة، وأكدت الأخيرة أن “الأمر لا يرتبط بذلك، خاصةً مع استمرار الدعم المقدم على مدار خمس سنوات”.
وبحسب الشلاف، اتجهت المنظمات في الأشهر الماضية إلى توقيف المشاريع غير الإنسانية، والتي كانت بينها “الشرطة الحرة” على أن تستمر بدعم المشاريع الإنسانية فقط التي يحتاج إليها المدنيون، لتبدأ في الوقت الحالي بتوقيف جميع المشاريع في الشمال.
تتوافق وجهة نظر الشلاف مع ما يقوله مدير اتحاد المنظمات الطبية والإغاثية “UOSSM”، زيدون الزعبي، حول سياسية الدول التي تعتبر عاملًا أساسيًا لتوقف مشاريع المنظمات في الشمال.
ويقول الزعبي لعنب بلدي إن “الدعم مرتبط بالسياسة، وإيقاف مشاريع الاستقرار سواء من بريطانيا أو أمريكا هو قرار سياسي حكمًا”.
ويضيف أن القرار السياسي مرتبط من جهة مع تركيا ومن جهة أخرى مع الاتحاد الأوروبي، والأخير يعتبر الجهة الوحيدة المستمرة حاليًا بدعم الاستقرار بالمعنى الحقيقي في شمال غرب سوريا.
وفي حديث سابق مع الزعبي، تشرين الثاني 2017، قال إن الحكومة التركية كانت من أشد الداعمين للمنظمات، وكانت تغض النظر بشكل كبير عن عملها، لكنها مؤخرًا بدأت بالتدقيق والتشديد على الحوالات المالية، أو طلب أذونات العمل لجميع العاملين في المنظمات وخاصة في مدينة غازي عنتاب الحدودية مع سوريا، التي تنشط فيها المنظمات بشكل كبير، ما أدى إلى معاناة الكثيرين من العاملين السوريين، مشيرًا إلى أن هدف تركيا هو ضبط نشاط هذه المنظمات على أرضها.
وأضاف الزعبي، حينها، أن بعض المنظمات توجهت من الشمال إلى الجنوب نتيجة سياسة الحكومة التركية، مثل “International Rescue Committee”، إضافة إلى تراجع تدخل البعض الآخر مثل “International Medical Corps”.
ويتولى الجانب التركي وضع محافظة إدلب في الوقت الحالي، وخاصةً بعد اتفاق “سوتشي” الأخير الموقع مع روسيا، والذي قضى بإنشاء منطقة عازلة بين النظام السوري والمعارضة، على أن يتم فتح الطرقات الدولية والعمل على تشكيل إدارة مدنية للمنطقة.
وكانت تركيا حجمت دور المنظمات الإنسانية في مدن وبلدات ريف حلب الشمالي بعد السيطرة الكاملة عليها ضمن معركة “درع الفرات”، وحولت جميع الأمور الإدارية والخدمية سواء للمجالس أو المشاريع الأخرى إلى المؤسسات التابعة لها في ولايتي كلس وغازي عنتاب.
ويشير الزعبي إلى عامل آخر لإيقاف الدعم، وهو مرتبط بسيطرة “هيئة تحرير الشام”، المتهمة بانتمائها إلى “تنظيم القاعدة”، على محافظة إدلب شمالي سوريا، الأمر الذي عقد أسلوب وإمكانية التدخل في المحافظة.
ويوضح الزعبي أن “وجود هيئة تحرير الشام يلعب دورًا أساسيًا بالتعطيل القائم للدعم”، مشيرًا إلى أن “تحرير الشام إما أن تكون السبب المباشر أو الذريعة المباشرة، كما حصل مع المنظمات البريطانية والهولندية (أوقفت برامج دعمها عن الشرطة الحرة)”.
أمريكا وبريطانيا.. كيف يبرر الداعمون تقليص الدعم؟
لا تعترف الحكومة البريطانية بالرابط بين توقيف دعمها للشرطة الحرة وتحقيق “BBC” الذي وصف عناصر الشرطة بـ “المتشددين”، وذلك على الرغم من أن التوقيف جاء مباشرة عقب عرض التحقيق.
أما الولايات المتحدة الأمريكية، فتقرّ بتحكم مخاوف الإرهاب في سياسات الدعم الإنساني في سوريا.
عنب بلدي تواصلت مع مجموعة من الداعمين الغربيين للمشاريع والمنظمات الإنسانية السورية، لكنها لم تتلق ردودًا سوى من منظمة آدم سميث إنترناشيونال (ASI)، التي تدير برنامج الوصول إلى العدالة والأمن المجتمعي الممول من بريطانيا (Ajacs)، وفريق الاستجابة للمساعدات الانتقالية في سوريا ضمن السفارة الأمريكية في أنقرة.
يشير ديفيد روبسون، مدير برنامج أمان وعدالة مجتمعية، إلى أن “الحكومة البريطانية ملتزمة بدعم شركائنا في سوريا، وتمويل عدد من البرامج التي تهدف إلى التخفيف من المعاناة ومساعدة المجتمعات على التعامل مع الآثار المروعة للحرب”.
وانتقد روبسون، في مراسلات عبر البريد الإلكتروني مع عنب بلدي بتاريخ 4 من كانون الأول 2017، تحقيق “BBC”، ووصفه بأنه “هجوم غير مهني وغير مسؤول من قبل هيئة الإذاعة البريطانية على برنامج يقاوم التطرف العنيف، ويدعم الشرطة الحرة والشجعان الذين يحاولون تخليص مجتمعاتهم من العنف وتحقيق الاستقرار والأمن للمجتمعات في ظروف يائسة في المعارضة”.
واعتبر أن “هذا العمل الصحفي الضار يخاطر بدعم المملكة المتحدة والمانحين الحكوميين الآخرين”، لكنه لم يتحدث عن طبيعة “المخاطرة” التي من شأنها أن تضر بالدعم.
مسؤولة الشؤون العامة ضمن فريق الاستجابة للمساعدات الانتقالية في سوريا في السفارة الأمريكية في أنقرة، صوفيا خليجي، أكّدت أيضًا في مراسلات بالبريد الإلكتروني مع عنب بلدي التزام الولايات المتحدة بتقديم الدعم الإنساني لسوريا، وقالت إنها “قدمت أكثر من 8.6 بليون دولار على شكل دعم في عموم سوريا والمنطقة منذ بدء الأزمة”.
ورغم إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في آب الفائت وقف تخصيص 230 مليون دولار لتمويل برامج إعادة الاستقرار في سوريا، وتحويلها لدعم أولويات أخرى، اعتبرت خليجي أن ذلك لم “يؤد إلى إيقاف أو تخفيض الدعم الأمريكي الإنساني”، مبررة ذلك بـ “استمرار دعم منظمة الدفاع المدني من منظمة الأمم المتحدة لحظر الأسلحة الكيماوية”.
وأضافت، “نحن نهدف إلى التخفيف من خطر استغلال الإرهابيين لهذه المساعدات عن طريق مراقبة شركائنا وتوزيع المساعدات عن كثب”.
وفي سؤال لعنب بلدي حول الإجراءات المتخذة في حال وصل الدعم لمنظمات مصنفة على لائحة الإرهاب، قالت صوفيا خليجي، “عندما تكون للولايات المتحدة أسبابها بأن أحد البرامج تمت خسارته أوتم تحويل مساره لجماعات إرهابية، نتخذ إجراءات فورية لتعليق النشاطات لنمنع الخسائر الإضافية. ندير المخاطر، فيما نستشير شركاءنا لضمان إيجاد أفضل السبل لإيصال هذا الدعم دون تدخل من الجماعات الإرهابية”.
كيف نظم القانون الدولي العمل الإنساني؟
منذ عام 1963 وضع المجتمع الدولي 13 صكًا قانونيًا عالميًا لمنع الأعمال الإرهابية، وتلك الصكوك أعدت بإشراف الأمم المتحدة، ووكالاتها المتخصصة، والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وفي عام 2005 أدخل المجتمع الدولي تغييرات جوهرية على ثلاثة من هذه الصكوك العالمية للمحاسبة، خصوصًا فيما يتعلق بالإرهاب، ثم تتابعت تلك الصكوك منذ عام 2010.
كان من أهم الاتفاقيات الدولية لمكافحة الإرهاب تلك التي وُقعت عام 1999، وسميت “الاتفاقية الدولية لقمع تمويل الإرهاب”، والتي تقضي بأن “تتخذ الأطراف خطوات لمنع ومكافحة تمويل الإرهابيين، بشكل مباشر أو غير مباشر، عن طريق جماعات تدعي السعي إلى غايات خيرية أو اجتماعية أو ثقافية، أو تشجع أنشطة غير مشروعة مثل الإتجار بالمخدرات أو تهريب الأسلحة”.
كما تلزم هذه الاتفاقية بتحميل من يمولون الإرهاب مسؤولية جنائية ومدنية وإدارية، بالإضافة إلى تحديد الأنشطة الإرهابية، وتجميد ومصادرة الأموال الموجهة إليها، وكذلك تقاسم الأموال المصادرة مع دول أخرى، حسب الحالة، ولا تعد الأسرار المصرفية مبررًا كافيًا للامتناع عن التعاون.
وجاء في المادة 2 من الاتفاقية نفسها، أنه يعتبر مرتكبًا لجرم تمويل الإرهاب كل شخص يقوم بأي وسيلة كانت، مباشرة أو غير مباشرة، وبشكل غير مشروع وبإرادته، بتقديم أو جمع أموال بنية استخدامها، أو هو يعلم أنها ستستخدم كليًا أو جزئيًا للقيام بأي عمل آخر يهدف إلى التسبب في موت شخص مدني أو أي شخص آخر أو إيذائه عندما يكون هذا الشخص غير مشترك في أعمال عدائية في حالة نشوب نزاع مسلح.
وتنطبق هذه الحالة فيما إذا كان مرتكب هذا الفعل منظمة، فجاء في الفقرة الثالثة من المادة 5 من الاتفاقية أن تكفل كل دولة طرف في الاتفاقية بإخضاع الكيانات الاعتبارية (المنظمات) المسؤولة لجزاءات جنائية أو مدنية أو إدارية فعالة، ومناسبة، ورادعة، ويجوز أن تشمل هذه الجزاءات مبالغ نقدية.
أمثلة على تأثر العمل الإنساني بتهم الإرهاب
بتكليف من مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، والمجلس النرويجي للاجئين، وبالنيابة عن اللجنة الدائمة المشتركة بين الوكالات، قدم باحثون نرويجيون عام 2015 تقريرًا بعنوان “آلية إدارة المخاطر المتعلقة بتدابير مكافحة الإرهاب”، يقيّم النتائج المترتبة على سياسات مكافحة الإرهاب في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة عام 2001.
الأمين العام المساعدة للشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، كيون جوا كانج، قالت في التقرير إن “تأثير تدابير مكافحة الإرهاب على العمل الإنساني كان مصدر قلق متزايد داخل المجتمع الإنساني، وهناك خوف خاص من أن الناس في المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة والمصنفة بأنها إرهابية، قد لا تكون لديهم فرصة أو تتضاءل فرصة حصولهم على المساعدات الإنسانية والحماية”.
ركز التقرير على دراسة حالتي الصومال وفلسطين، وكانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأستراليا من بين الجهات التي لديها قوانين معمول بها بهدف منع الدعم الدولي للجماعات التي تعتبر منظمات إرهابية.
غزة
يتم استبعاد المستفيدين من المساعدات الإنسانية في قطاع غزة الخاضع لسيطرة حركة حماس، وهي حركة محظورة من قبل الولايات المتحدة.
ويشير تقرير “آلية إدارة المخاطر المتعلقة بتدابير مكافحة الإرهاب” إلى أن قوانين مكافحة الإرهاب أثرت على الأعمال الإنسانية في قطاع غزة الفلسطيني، إذ تسببت بـ “حدوث تغيير في محددات العمل الإنساني لكي تخصص البرامج أولًا لتجنب الاتصال أو دعم جماعة معينة (حماس) وثانيًا لكي تستجيب للاحتياجات الإنسانية”.
ونتيجة لذلك تضاءل دور المنظمات غير الحكومية المحلية في العمل الإنساني في غزة، “رفضت بعض المنظمات غير الحكومية المحلية قبول منح من الجهات المانحة نتيجة لبنود مكافحة الإرهاب، وهو ما أثر على قدرة الجهات المانحة ووكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية على إيجاد شركاء مؤهلين”، بحسب التقرير.
الصومال
بعد عام 2008 على سبيل المثال، عندما صنفت الولايات المتحدة حركة الشباب (جماعة صومالية متشددة) كجماعة إرهابية، انخفضت المساعدات المقدمة إلى الصومال بنسبة 82%، بين عامي 2008 و2010، وفق التقرير.
وحذر التقرير من أن وقوع وكالات المعونة كضحايا لقانون مكافحة الإرهاب كان له تأثير كبير على البرامج الإنسانية.
وذكر أن “البحث كشف عن مستوى عال من القيود والرقابة الذاتية، وقد كان ذلك حادًا بشكل خاص في المنظمات التي رأت أن سمعتها ضعيفة للغاية وخاصة المنظمات غير الحكومية الإسلامية، ويبدو أن خطر الملاحقة الجنائية والضرر بالسمعة أدى في بعض الحالات إلى الامتثال الزائد عن الحد لتلك القوانين”.