عنب بلدي – مزنة عكيدي
“إنهم أيضًا أولادي، هكذا أنظر إلى الحياة، وكأن جميع الأطفال أولادي”، بهذه الكلمات برر الشرطي التركي “هارون كولاج أوغلو” دموعه وهو يراقب محاولات الفريق الطبي الفاشلة لإنقاذ حياة ملك أبو جزار، الطفلة الفلسطينية التي غرقت خلال محاولة هجرة غير شرعية من مدينة بودروم التركية باتجاه الشواطئ اليونانية.
انطلقت رحلة البحث عن الحياة على “مركب الموت”، فجر يوم الاثنين 22 من تشرين الأول الفائت، وحمل المركب “إيلا” على متنه 20 مهاجرًا من جنسيات مختلفة كانت السورية واحدة منها. لم تستمر الرحلة طويلًا، فقد غرق المركب بعد قطعه مسافة خمسين مترًا، وراح ضحية ذلك ثلاثة أطفال، كانت ملك واحدة منهم.
كتبت النجاة هذه المرة لجميع السوريين ممن كانوا على متن المركب، لكن اللافت في الأمر، هو تداول الفيديو الذي رصد بكاء الشرطي على أنه مشهد لبكاء شرطي تركي على فتاة سورية غارقة، وربما يأتي هذا الالتباس نتيجة لارتباط الهوية السورية بالمآسي الإنسانية، لا سيما مآسي الهجرة غير الشرعية.
فقد شهد الإقبال السوري على هذا النوع من الهجرة ارتفاعًا كبيرًا منذ عام 2011، ما أدى إلى موت 2157 منهم حتى آذار 2015، بحسب تقرير أعدته الشبكة السورية لحقوق الإنسان، واستمر سقوط ضحايا الهجرة إلى أن تم توقيع اتفاقية بين تركيا والاتحاد الأوربي في آذار 2016 حول تبادل اللاجئين، لتتضاءل بعدها أعداد ضحايا الغرق من السوريين.
دموع بائعة المناديل
لقاء آخر بين شرطي تركي وطفلة، كان وجود الدموع فيه سببًا لتداوله على نطاق واسع، ولكن هذه المرة كانت الطفلة هي من ذرفت دموعًا لم تكن برصانة دموع الشرطي هارون، فقد كان صوت بكاء الطفلة عائشة وطريقته كفيلين بلفت الأنظار ومحط تساؤلات واستغراب.
ففي نيسان أبريل 2015، انتشر على منصات التواصل الاجتماعي مقطع مصور لطفلة سورية تبيع المناديل، وهي في موجة بكاء هستيرية، عند رؤيتها لشرطي تركي.
وتظهر الطفلة متشبثة بساق امرأة من المارة، مستجيرة بها من الشرطي، وبالرغم من محاولات الشرطي لتهدئة الطفلة، استمرت عائشة بالبكاء، وكانت جملة “الله يوفقك يا آبيه” التي استمرت بترديدها متوسلة للشرطي ورفاقه، مجهولة السبب، مع استمرار الشرطي ورفاقه بتهدئتها دون جدوى.
وفق دراسة أجراها مستشفى بينديك للأبحاث في اسطنبول، فإن ستة من بين كل عشرة أطفال من اللاجئين السوريين يعانون تداعيات الصدمة والقلق بعد قدومهم من سوريا.
وأظهرت الدراسة أن اضطراب إجهاد ما بعد الصدمة والاكتئاب، هما الأكثر شيوعًا بين الأطفال، وهو ما ينعكس بشكل جدي على الوظائف الاجتماعية والأسرية لديهم.
لكن حالة الذعر التي أصابت عائشة قد لا يكون سببها تداعيات الحرب في سوريا، بحسب الاختصاصية التركية في شؤون الأطفال النفسية، ستناي كافا، إذ إن بكاء الطفلة “ربما يكون نتيجة شيء سيئ حصل معها، أو ربما يكون نتيجة خوفها المباشر من الشرطة”.
ولا تستطيع كافا الجزم فيما إذا كان الوضع الأمني في سوريا مرتبطًا برد فعل الطفلة، مضيفة في لقاء مع عنب بلدي، أن تحديد هذا الأمر يرتبط بوجود تفاصيل أكثر حول الحالة.
الشرطة في المدرسة
كان عبد الرحمن، وهو طفل سوري يقيم في تركيا، في سن العاشرة حين اعتقل والده بتهمة معارضة الدولة، وهو ما ترك لديه أثرًا لم يتخلص منه حتى بعد مغادرة سوريا.
يقول عبد الرحمن (طلب عدم كشف اسمه لمخاوف أمنية) إن نظرته للشرطة ورجال الأمن، كانت تتسم بالخوف والفزع، حتى قبل اعتقال والده، ويعود ذلك لموقف عايشه في مدرسته الابتدائية.
“دخل الشرطة إلى المدرسة بكامل أسلحتهم، إثر شجار حدث بين مجموعة من الطلاب، وصراخ العناصر على الأطفال، وضربهم لأحد طلاب الصف الخامس جعلني أخاف منهم في تلك المرحلة”، يصف عبد الرحمن لعنب بلدي ما علق بذاكرته من ذلك الموقف.
“وحين اعتقل والدي قبل عدة سنوات تلقيت الخبر على أنه أمر عادي”، يتابع عبد الرحمن رد فعله حين اعتقل والده، إذ لم يكن يتوقع أن الاعتقال قد يطول وقد تكون نهايته الموت، لكنه بعد مرور عام على اعتقال والده، أصبح يرى الشرطة على أنهم أعداء، وتعززت هذه النظرة، بعد إطلاق الشرطة الرصاص الحي على مظاهرة سلمية في منطقته، بحسب تعبيره.
الاختصاصية ستناي كافا، قالت لعنب بلدي، “غالبًا ما تتكون مواقف الأطفال في هذه السن الصغيرة بناء على مواقف عائلاتهم، وتبنى وجهات نظرهم بناء على وجهات نظر الكبار”.
ونتيجة موقف والده والنتيجة التي آل إليها بسببه، كوّن عبد الرحمن حالة تلقائية من العداء مع رجال الأمن السوريين، إذ قال لعنب بلدي إنه بقي في خوف من الشرطة واضطر أن يخفي خبر اعتقال والده حتى على أصدقائه المقربين، مع شعوره بالتهديد الدائم.
بعد قدوم عبد الرحمن إلى تركيا، سمحت له سنه بأن يفصل بين موقفه من الشرطة السورية والشرطة التركية، وعلى خلاف عائشة، استطاع أن يتفهم أن الشرطة وظيفتها حفظ الأمن والنظام.
وتبقى علاقة الأطفال السوريين مع الزي الأمني في “أزمة ثقة”، بعد أن عايشوا اعتقالات وحملات قصف وإبادة ممنهجة من قبل قوات النظام السوري، فمنذ آذار 2011 حتى أيلول 2018 راح ضحية الاعتقال التعسفي ما يقارب 104029شخصًا بينهم 3118 طفلًا، وسقط 198152 ضحية من المدنيين على يد قوات النظام، 22363 منهم من الأطفال بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان.