السوريون واستعادة معنى الوطن
محمد حاج بكري
عين الحقيقة أن النظام السياسي في سوريا يعاني ما يشبه الاحتضار، فبشار الأسد يحاول ما وسعته الحيلة الالتفاف حول الأزمة الخانقة بالإعلان تلو الإعلان عن تعديلات وتطويرات وإصلاحات ومراسيم وقوانين ونقل تلفزيوني عن العودة إلى حضن الوطن، وشعارات براقة على علاقة وثيقة بالزيف والخداع والكذب، تصب كلها في إبقاء الحال على ما هو عليه، مراهنًا أن هذا هو الحل الأمثل إلى أن يصل إلى طريقة جيدة لإبقاء حكمه.
والحق أن هدفه لا غبار عليه، فهو ونظامه السياسي واضحان كل الوضوح في أن القضية الأساسية لهما هي الاستمرار في الحكم وضمان هذا الاستمرار، حتى بعد أن ينفذ أمر الله برحيله عن الدار الفانية للدار الأخرى، فالاستمرار الوراثي هو الحل الوحيد لبقاء ملفات النهب والسلب والقتل والتدمير والأسلحة المحرمة ومجازر الكيماوي مغلقة، حتى وإن دارت أحاديث هنا وهناك، ما تلبث أن تتلاشى لأنها مجرد إشاعات، لا علاقة لها بأي تحقيق فعلي يبرئ أو يدين أي أحد.
في ظل هذا الواقع يصبح من الممكن عقليًا فهم ما يريده ويفعله النظام السياسي في سوريا، مما يجعل تعبير أزمة النظام أو الحكم تعبيرًا مجازيًا، إذ أن النظام يعرف ما يريد ويسعي لتحقيقه بكل السبل والوسائل والسؤال هنا: وماذا عن المعارضين؟ ما هو تصورهم وما هي السبل التي يسلكونها من أجل إفشال هذا المشروع أو الرد عليه بمشروع بديل أو موازٍ؟ الإجابة لا شيء. لكن كيف يمكن أن تكون هذه هي الإجابة والثورة السورية تعج بالأحزاب السياسية والحركات الاحتجاجية والمظاهرات والقادة والأمراء والنخب الحنجورية.
لفهم ذلك نحتاج إلى الخروج من مأزق ثنائية هذا أو ذاك، وعلى كل المستويات، بدءًا من هل هي أزمة نظام أم أزمة معارضة؟ هل نقبل بالأسد أم نسعى إلى الفوضى؟ وهل نستسلم للاستبداد أم نسعى للمجيء بالمحتل؟ كل هذه الثنائيات أعاقت وما زالت تعيق السوريين عن إعمال العقل، مما عمق تشوهات كثيرة، مثل مبدأ أن السياسة وممارستها هي عمل لكل الشعب بدءًا ممن يحمل الشهادة الابتدائية حتى حامل الدكتوراة، ولا فرق بينهما، أو أنها مجرد تجمعات قبلية لأسر وبقايا رفاق وأخوه يتداعون إلى حلقات فكريه يتصايحون خلالها بانهم أفضل وأول وأحسن من سار على الأرض أو أبطال الفيس وغرف الواتس، أو قائد فصيل لديه مكتب سياسي وهو لا يفقه أبسط العلوم يزور دول العالم مختالًا ويجتمع بوزراء ويحضر اجتماعات ويلتقط الصور مع هذا وذاك، وحقيقة لا هو بالعير ولا بالنفير. هذا الواقع المرعب يعمق فكرة أن الأزمة ليست مجرد أزمة حكم أو معارضة أو نخب بل هي أزمة وطن، كيف؟
لعل التوضيح دون إسهاب يستلزم النظر إلى حجم التشابكات بين كل هذه الأطراف، فالنظام السياسي في سوريا مع قواه الأمنية وعبر سعيه الحثيث لخلق مناخ مشبع بالضباب والبلاهة، يدعم استمراره في تحقيق ما ينتويه، أصاب الناس في مقتل، فتحول أغلب السوريين إلى مجرد كائنات تسعي في الدنيا، لا تعرف إلي أين ولا كيف فالمهم هو البقاء تحت أي شروط وأيًا كانت الوسائل. شاهدنا العديد من الشباب اليائس يستدين ويبيع ما يمتلكه من حطام الدنيا ليركب قاربًا قد يوصله إلى بلاد لا يعرفها أو يغيب به في أعماق البحار، وشاهدنا أعيانًا ومسؤولين يتاجرون في الدم بالمعنى الفعلي وليس المجازي، ويبيعون سرطانات ونفايات من خلال أحاديثهم ومقابلاتهم المتلفزة.
هؤلاء مجموعة من الجهلة والمزاودين من مدفوعي الثمن يخونون لحساب مصالح وضيعة، ويشكلون في مجموعهم جزءًا من عامة الناس أو الشعب الذي يؤدي انصرافه أو تعاليه على النخب السياسية إلى تدمير أي إمكانية لتغيير الواقع، فأي نخب لا معنى لوجودها دون بشر أو جماهير تصغي وتتأثر بما يطرح عليها، وإلا فمن ذا الذي سوف يدافع أو يساند أي مشاريع بديلة للتغيير.
هذا الخلل دفع بالنخب إلى واقع مضحك مبكٍ، فالنخب المعارضة أصبحت تفرز خطابًا وأطروحات في غالبها الأعم ضد بعضها البعض، وبالتالي تسعى كل جماعة منها إلى تصالح أو صلح منفرد مع نظام سياسي لا يقبل إلا بالأذناب ولا يقر أي ندية، وهذا أدى إلى حالة من التفتت والتشرذم التي دفعت بالشعب أن يقول إنه لم يبقَ إلا أن نقوم بإنشاء تجمع نسميه قادة فصائل وسياسيين وأبطال فيس بوك وتويتر من أجل التغيير.
وهنا يمكن أن نقول أن التساؤل الصارخ والذي لا يمكن إغفاله هو كيف وصلنا إلى هذا الدرك، رغم كل ما نلوكه عن العمق الثوري وانتشار نماذج ثورية موجودة وباختصاصات متعددة مبهرة؟
السبب الذي نراه يكمن فيما أسميناه ازمة وطن، فسوريا التي يضخ الإعلام الرسمي غناءًا محمومًا عن عظمتها وروعتها وريادتها لم تعد وطنًا لأبنائها الذين تحولوا لمجرد سكان يسعي بعضهم بدأب شديد من أجل تامين سكن في المهجر أو المخيم، ويحاول البعض الآخر أن يبيع ملكيته بأبخس الأثمان في وطنه، وبأي طريقة ليستر نفسه أو يكمل تعليم أولاده.
ونتيجة لتعمق هذا المفهوم، أو لغياب المفهوم الفعلي للوطن، انهارت قيمة المواطنة فأصبح السوريون جماعات تنضوي تحت لافتات حقيقية أو عبثية كالعاملين في الخارج أو ضباط انشقوا عن النظام تلبية لمطالب شعبهم ويعملون الآن في جني موسم الزيتون، أو مثقفين وجامعيين زهدوا في علمهم ومعرفتهم بعد أن استلم زمام الأمر الجهل وقلة المعرفة، أو أصحاب “الإسلام هو الحل”، أو الحيتان الذين يبلعون كل ما يقف في طريقهم. كل هذه الفئات والجماعات تترسخ جذورها كلما طال الزمن، فتفرز صيغًا ليس أقلها تجمعات أطفال الشوارع السوريين في معظم دول العالم وهي ظاهره تتضخم بشكل مرعب.
هذا الواقع المرير يطرح علينا مشكلة جد خطيره مفادها أن الواقع يزداد صعوبة ويستعصي على التغيير، ليس فقط كنتيجة لقمع الأنظمة بل لوجود تلك الجحافل الذين يتصايحون بالوطنية، بينما كل همهم هو استمرار الحال على ما هو عليه، حتى لا يكون هناك مناخ صحي يؤدي إلى فرز حقيقي للعقول.
قد يطرح محسنو النوايا سؤالًا وما الحل؟ وقد تكون الإجابة المختصرة لا حل هناك، إلا ان معرفتنا بان القنوط من رحمة الله ذنب عظيم يجعلنا نستدرج، ونقول إن أي حل غير الانهيار لا بد أن يبدأ من فهم حقيقي لحجم ونوع الأزمة، وأنها ليست فقط مجرد أزمة نظام حكم أو نخب سياسية، بل هي ازمة وطن، وعليه فلا بد بداية وبداهة أن نستعيد معنى الوطن، ومن ثم معنى المواطنة، ذلك المعنى الذي بدونه لا يمكن أن يكون هناك أي سبيل للبحث عن حل، فهل نفهم رأفة بالثكالى وأولاد الشهداء وبأخلاقنا وديننا ومستقبل بلدنا؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :