نور عبد النور | حلا إبراهيم | رهام الأسعد | محمد حمص
لاحق “الكابوس” رشا ذات الثمانية عشر عامًا، قبل أن يتحوّل إلى واقع أنهى حياتها بطلقات رشاش “كلاشينكوف” على مرأى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي.
القاتل الذي بثّ جريمته في مقطع فيديو ادّعى أنه أخوها، وأنه “يغسل عاره”، ولم يتم تداول روايات كثيرة للحادثة، كون الرواية الأساسية موثّقة في قناة على موقع “تلغرام” للتواصل، تدعى “جرابلس نيوز الكابوس”، حرّضت على قتلها متهمةً إياها بممارسة الدعارة.
تختصّ القناة بنشر فضائح وممارسات فصائل المعارضة في مدينة جرابلس في ريف حلب الشمالي، وبحجة فضح انتهاكات العناصر تقوم بنشر أخبار عن علاقات جنسية تجمع بعضهم بنساء في المنطقة.
رشا بسيس، كانت الضحية الأولى لما تنشره هذه القناة، لكنّ فتيات أخريات تنشر القناة أسماءهن وصورهن بشكل واضح وتتهمهن بممارسة “أفعال لا أخلاقية”، قد يكنّ ضحايا جددًا لعرف اجتماعي سوري يمنح العائلة حق إنهاء حياة الفتاة التي يُشك بأخلاقية سلوكها.
حصدت قصّة رشا، التي بدأت وانتهت على صفحات ومجموعات التواصل الاجتماعي العامة، تعاطفًا كبيرًا غلب بعض الأصوات المباركة لقتلها، لكن بالمقابل، غالبًا ما يتم التكتم على مثل هذه الحوادث التي تشير إحصائيات قضائية إلى أنها كانت وما زالت منتشرة في سوريا، وبكثرة.
عام 2005 شهد أول إظهار للقضية من أقبية المنازل إلى العلن، مدفوعًا بتحرك بعض المنظمات الحقوقية، والتجمعات النسوية، وحصدت استجابة قانونية وقضائية عُدلت بموجبها القوانين المتعلقة بـ “جرائم الشرف”، وبدأ تسجيل عدد ضحاياها.
لكن رصد الظاهرة توقف بحلول عام 2014، حينها كان المجتمع السوري قد بدأ بالتفكك نتيجة اختلاف القوى المسيطرة على الجغرافيا، وما لحقه من انزياحات ديموغرافية وأيديولوجية جعلت من السوريين مجتمعات موزعة على المدن الأكثر استقرارًا ومناطق النزوح وبلدان اللجوء.
داخل الحدود.. “جرائم الشرف” بأشكال مختلفة
في تموز 2016 نقلت صحيفة “الوطن” المقربة من النظام عن المحامي العام لريف دمشق، القاضي ماهر العلبي، أن “جرائم الشرف” ارتفعت بشكل واضح، وقدرت الصحيفة بالاستناد إلى “مصادر قضائية” أنها زادت أربعة أضعاف ما كانت عليه.
العلبي اتهم مقاتلي المعارضة “بتحريض الفتيات للتمرد على أهاليهن، وبتحريض الأهالي على قتل فتياتهن”، وهذا من وجهة نظره، أدى إلى زيادة هذا النوع من الجرائم.
لكن الإحصائيات التي تجريها المؤسسات المرتبطة بالدولة السورية لا تشمل المناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة، ما يكذب ادعاءات العلبي، ويحصر هذا الارتفاع الذي تحدث عنه في مناطق سيطرة النظام.
على الجانب الآخر، خرجت هذه القضية في بعض المناطق التي تسيطر عليها قوى إسلامية متشددة من الإطار العائلي، ودخلت في إطار تطبيق الشريعة.
تنظيم الدولة، نشر مقاطع فيديو عدة تظهر إقامة حدّ “الرجم حتى الموت” بحق نساء اتُهمن بالزنا، ويوثّق موقع “يوتيوب” تنفيذ بعض هذه الحدود، منها ما تم في ريف حماة في تشرين الثاني 2014، وفي مدينة الميادين في ريف دير الزور بتاريخ 14 من أيار 2017.
“جبهة النصرة” أيضًا نفذت حدودًا مشابهة، لكن رميًا بالرصاص، ففي بداية شهر كانون الثاني عام 2015 انتشر فيديو على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي يظهر قيام عناصر من النصرة بإعدام امرأة في بلدة معرة مصرين في ريف إدلب بتهم تتعلق بارتكاب أفعال “منافية للأخلاق”.
تلك الحدود، ولدت خوفًا أسهم في تقليل القضايا التي تؤدي إلى جرائم بدواعي الشرف، من وجهة نظر العقيد أديب الشلاف، مدير الشرطة الحرة في حلب.
الشلاف، أكد في لقاء مع عنب بلدي، أنه لم يواجه “جرائم شرف” خلال عمله على رأس الشرطة الحرة في حلب مرجعًا ذلك إلى وعي الناس بأنهم في خطر عام، لكنه لم يستبعد حدوثها “كون الجرائم من هذا النوع لا يُسمح بفضحها”.
مديرة مكتب المرأة ورعاية الطفل في جبل الزاوية، فاطمة الحجي، لديها وجهة نظر مشابهة بحكم مخالطتها الكثير من الشابات السوريات، وترى أن “جرائم الشرف” غير منتشرة على نطاق واسع في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، مرجعةً ذلك إلى أن الأهالي باتوا يتخذون إجراءات أكثر تشددًا بحق بناتهن، عبر إجبارهن على طريقة لباس محددة والتحكم بهن وتقييد حريتهن.
وتضيف الحجي لعنب بلدي أن الأهالي لجؤوا إلى تزويج فتياتهن القاصرات، خوفًا عليهن، ودرءًا لاحتمالات ابتعادهن عن السلوكيات التي يحددها الدين والمجتمع.
لكن هذه الحلول لم تفلح بشكل كافٍ، إذ تمّ تزويج رشا في سن مبكرة وهي لا تزال قاصرةً، وذلك لم يرد عنها قدرًا كان أخوها أداته العنيفة.
في الخارج.. لم تتبدل مبررات الجريمة
بشار بسيس، أخو رشا، والقاتل الذي استخدم مواقع التواصل الاجتماعي كمسرح لجريمته، لم يكن الأول. سبقه إلى هذا الإشهار أبو مروان، اللاجئ السوري في ألمانيا الذي بثّ في آذار الماضي فيديو على صفحته الشخصية، اعترف خلاله بقتل طليقته أمام أعين أطفاله، مبررًا دوافعه بأنها تزوجت من رجل ينتمي لطائفة دينية مختلفة، وأنها لم تسمح لأطفاله بالعيش معه.
ودعا “أبو مروان” رواد مواقع التواصل الاجتماعي إلى نشر المقطع على نطاق واسع، لتكون طليقته “عبرة لكل امرأة تنحرف عن الطريق”، على حد قوله.
وجود الرجل في دولة لا تعترف بـ “جرائم بالدافع الشريف” كما يطلق عليها قضائيًا في سوريا، أدى إلى محاكمته، ومعاقبته بالسجن المؤبد، واعتبر القضاء أن الجريمة ارتكبت “بدوافع دينية”.
قضية “أبي مروان” سلطت الضوء على نقل بعض الأعراف الاجتماعية السورية إلى الخارج، دون اعتبارات لقوانين لا دينية أعطت النساء السوريات في أوروبا حرّيات غير مسبوقة، وحماية من سلطة الذكر.
لكن في تركيا، حيث تتشابه المعتقدات الدينية بين السوريين والمجتمع المضيف إلى حدّ كبير، أخذت الجرائم بحجة الشرف على يد سوريين مساحة أكبر من الحرية رغم صرامة القوانين المطبقة في هذا الإطار.
وسُجلت آخر جريمة بدواعي “الحفاظ على العرض” في آب الماضي، حين أقدم السوري محمد العابد على قتل زوجته متهمًا إياها بخيانته، وتمت الجريمة بالتعاون مع شقيق الزوجة، وفق التفاصيل التي نشرتها صحيفة “حرييت” التركية.
ورغم أن القانون في تركيا يعاقب مرتكب هذه الجرائم بالسجن مدى الحياة، تتزايد “جرائم الشرف” في المناطق السورية التي تسيطر عليها قوات مدعومة تركيًا، ومنها قضية رشا في مدينة جرابلس.
ويرى العقيد أديب الشلاف أن الفوضى في هذه المناطق وحركة النزوح الكبيرة بداخلها، ساعدا على حدوث هذا النوع من الجرائم.
القانون السوري يمنح عذرًا مخففًا لـ “الدافع الشريف”
بقي قانون العقوبات السوري الذي صدر بالمرسوم التشريعي رقم 148 لعام 1949، يعفي القاتل من العقوبة في حال إقدامه على القتل، متذرعًا بـ “الدافع الشريف”، بمنحه عذرًا محلًا من هذه العقوبة، وفي عام 2009 طرأ أول تغيير عليه، فبات القاتل بهذا الدافع يُحكم مدة سنتين كحد أقصى.
إلى أن صدر المرسوم رقم 1 لعام 2011، الذي ألغى نص المادة 548 من قانون العقوبات السوري، والتي كانت تنص على أن القاتل “يستفيد من العذر المحل من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر، فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد، ويستفيد مرتكب القتل أو الأذى من العذر المخفف إذا فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في حالة مريبة مع آخر”.
وتم استبدال المادة 548 السابق ذكرها، بالمادة 15 من المرسوم رقم 1 لعام 2011، التي ألغت استفادة القاتل من العذر المحل من العقوبة، في حال ارتكابه لجريمة القتل بالدافع الشريف، فيما لم تأت على ذكر “الحالة المريبة” التي كانت مبررًا لمنح العذر المخفف في القانون القديم، والتي كان الإبقاء عليها يعرض الكثير من النساء لخطر القتل تحت ذريعة الدافع الشريف، بحجة “الحالة المريبة” في حال عدم القدرة على إثبات الزنا.
وجاء نص المادة أنه “يستفيد من العذر المخفف من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخواته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد وتكون العقوبة الحبس من خمس سنوات إلى سبع سنوات في القتل”.
وبالتالي إذا أثبت القاتل وجود جرم الزنا عند زوجته أو أخته، وأنه فاجأها في أثناء الفعل، يستفيد من تخفيض العقوبة للحبس من خمس سنوات كحد أدنى، إلى سبع سنوات كحد أقصى، ويرجع تقدير ذلك للمحكمة.
الدافع الشريف في القانون السوري
جاء النص على منح عذر مخفف للجرائم المرتكبة بالدافع الشريف، في المادة 192، من قانون العقوبات السوري، والتي حددت العقوبات المخففة في حال توافر هذا الدافع.
وعرّف قانون العقوبات “الدافع” بأنه “العلة التي تحمل الفاعل على الفعل أو الغاية القصوى التي يتوخاها”، إلا أنه لم يحدد ما هو الدافع الشريف، وترك أمر تعريفه وتحديده للقاضي.
وبعد صدور عدة اجتهادات قضائية توصلت محكمة النقض إلى عدة تعريفات للدافع الشريف منها أنه “عاطفة نفسية جامحة تسوق الفاعل على ارتكاب جريمته تحت تأثير فكرة مقدسة لديه بعيدة كل البعد عن الأنانية والأثرة ومنزهة عن الحقد والانتقام، وعن كل ما فيه مصلحة فردية أو عاطفة خاصة أو غاية شخصية”.
وفي اجتهاد آخر اعتبرت محكمة النقض أن الدافع الشريف هو “عاطفة نفسية جامحة تدفع صاحبها إلى ارتكاب جريمته تحت تأثير فكرة مقدسة لديه لا سبيل إلى تجاهلها وإهمالها وطرحها، وهي الحفاظ على العرض والذود عنه، ويعتبر الدافع موجودًا لمجرد وقوع القتل تحت تأثير اعتداء القتيل على عرض القاتل ولا عبرة في ذلك للزمن طال أم قصر”، وفق ما نشرته مجلة “المحامون” في عددها الثاني، تحت عنوان “اجتهاد نقض رقم 1157، بتاريخ 30 من تشرين الثاني 1982”.
فوفقًا للمادة 15 يشترط لمنح العذر المخفف لعقوبة القاتل وجود عنصر المفاجأة، “من فاجأ زوجه أو أحد فروعه أو أصوله أو أخته (…)”، أما التراخي في الزمن وارتكاب جرم القتل في اليوم التالي أو بعد ذلك، فينفي عنصر المفاجأة، الذي يولّد سورة الغضب (نوبة الغضب)، وبالتالي ينفي استفادة القاتل من العذر المخفف.
كما أكدت محكمة النقض أنه “لا يجوز الأخذ بالدافع الشريف عند انتفاء التلازم بينه وبين فعل القتل، وذلك بظهور أدلة أخرى تكفي للدلالة على قيام حالة معاكسة تنفي وجود هذا الدافع، وتؤكد أن الفعل وقع نتيجة دوافع أخرى”، وعلى هذا فإن قتل الأب لابنته بعد تزويجها، ولأسباب تعود إلى سوء سلوكها قبل الزواج ينفي عنه الدافع الشريف، المخفف لعقوبة القتل، بحسب مجلة “المحامون”، في العدد 1979.
جريمة الشرف في الشريعة الإسلامية
ترفض الشريعة الإسلامية القصاص الفردي، وتوجب إرجاع القضايا إلى القضاء المختص للنظر في التهمة من خلال محاكمة عادلة ومبنية على الأدلة الشرعية والقرائن المتفقة مع العقل والمنطق.
الباحث والكاتب الإسلامي السوري وعضو مجلس الشعب سابقًا، محمد حبش، يعرف “جرائم الشرف” بأنها “الجرائم الخاصة بالانتقام من الأنثى أو الرجل إذا اشتبه في مقارفتهما الفاحشة، فهو أمر مستهجن وغير مقبول لا لغويًا ولا شرعيًا، وهو استخدام مستحدث”، مؤكدًا أن المصطلح شاع استعماله “عبر الخطاب الصحفي، وليس عبر لغة الفقهاء”.
ويقول حبش في دراسته “جرائم الشرف بين الشريعة والقانون” إن الإسلام جاء شديدًا في تحريم الزنى واعتباره جريمة أخلاقية واجتماعية، وخاصة “عندما يتضمن خيانة زوجية، وذلك حرصًا من الشريعة الغراء على استقرار الأسرة”.
ويضيف الباحث الإسلامي أنه من البديهي أن تقوم “الشريعة بتقرير عقوبة رادعة على طرفي الزنى عندما يثبت ذلك بالأدلة القضائية المحكمة”، وكانت “هذه العقوبات” في بداية الإسلام تتم بجلد الزناة وهو نمط متعارف عليه، ولكن خلال تاريخ الفقه الإسلامي طرأت عليه تعديلات كثيرة تناسب تطور الحياة والأعراف التشريعية في كل بلد من البلدان.
والعقوبات الشرعية المقررة على جريمة الزنى ليست شأنًا فرديًا، يطبقة من شاء كيف ومتى ما شاء، وفق حبش، مضيفًا أن هذا شأن الحكومة الشرعية التي من واجبها تطبيق القانون، ولا يتم ذلك إلا بعد أن تكون الأمة قد اختارت تطبيق هذا الحكم ووافقت عليه عبر مؤسساتها الديمقراطية، وللحدود شروط كثيرة ودقيقة لا بد منها حتى يتحقق الحكم الشرعي.
وأشار الباحث الإسلامي إلى أن هذه الشروط لها من “الشدة والصرامة”، بحيث يستحيل تحققها.
واعتبر ارتكاب جرائم القتل باسم “جرائم الشرف” هو منطق مرفوض إسلاميًا وفق آلة الفقه الإسلامي وأصوله.
ويقول حبش، “نحن نختار وجوب العقاب على الجاني بالقصاص، مع إمكان تخفيف القصاص والاستفادة من العذر المخفف إذا تحقق عنصر المفاجأة حال الجناية، وثبتت الخطيئة بالأدلة الشرعية، وهذا ما يحقق مقاصد الشريعة في تحقيق العدل والحق في الأرض.
ودعا إلى منع كل أشكال جرائم الشرف والتأكيد على أنها مخالفة صريحة لنصوص الشريعة ومقاصدها.
حراك مدني- فني لم ينصر النساء الضحايا
حرك صعود قضية “جرائم الشرف” في سوريا في أواسط العقد الماضي إلى العلن أوراقًا قانونية، وبدّل في شكل التعاطي القضائي مع هذه الظاهرة، وباتت النساء والفتيات من ضحايا “جرائم الشرف” يوثَّقن في إحصائيات رسمية وغير رسمية يستخدمها حقوقيون لرصد صعود وهبوط نسبة هذه الظاهرة.
وكان لا بد من انفتاح أكبر على الظاهرة التي يبدو أنها كانت في ذلك الحين تتفاقم بشكل كبير، ما جعل من سوريا عام 2010 ثالث دولة عربية في قائمة “جرائم الشرف” بعد اليمن وفلسطين، وفق إحصائية نشرتها آنذاك جريدة الوطن السورية، إذ شهد ذلك العام 249 حالة قتل بدافع “قضايا شرف”.
تحرك حقوقي
في عام 2005 أطلق “مرصد نساء سوريا” حملة “لمناهضة جرائم الشرف” بهدف إلغاء المادة 548 من قانون العقوبات السوري، وتعديل المادة 192 من القانون نفسه، بهدف معاملة القتلة بهذا العذر كالقتلة بأي عذر آخر، دون إمكانية الاستفادة المسبقة من القانون.
وبعد ثلاثة أعوام عُقد مؤتمر وطني تحت عنوان “الملتقى الوطني حول جرائم الشرف”، وانتهى بمجموعة توصيات تهدف إلى مناهضة “جرائم الشرف” في سوريا.
الناشطة في مجال حقوق الإنسان ريما فليحان، التي كانت إحدى النساء اللاتي شاركن في حملات حقوقية آنذاك لمواجهة هذه الجرائم، قالت لعنب بلدي إن تلك الحملات تمت من قبل ناشطين ومنظمات مجتمع مدني، وكانت تطالب بإلغاء العذر المحل والمخفف للقاتل الذي يقتل بذريعة الشرف.
ولفتت فليحان إلى أن الضغط كان في إطار قانوني لأن القانون هو من يسهل ارتكاب جرائم من هذا النوع، مع استفادته من تخفيف الحكم.
بناء على هذه التحركات تم تعديل المادة 548 من قانون العقوبات السوري بالمرسوم الرئاسي رقم 37 لعام 2009، وأصبحت عقوبة مرتكب هذه الجرائم تصل إلى سنتين.
لكن هذا التحرك لم يكن كافيًا من وجهة نظر المرصد، ومن وجهة نظر منظمات دولية معنية بحقوق الإنسان، ومنها “هيومان رايتس ووتش” التي أصدرت في تموز عام 2009 تقريرًا بعنوان “لا استثناءات في جرائم الشرف”، وقالت إن التعديل يحمل تغيرًا إيجابيًا في قانون العقوبات لكنه ما زال يخفف العقوبة على بعض من يقتلون النساء.
وعقب ذلك صدر المرسوم رقم 1 لعام 2011، جاء استجابة للضغط الذي شكله التحرك الحقوقي، ورفع سنوات السجن لمرتكبي “جرائم الشرف” إلى سبع سنوات كحد أقصى.
قلص ذلك التعديل الجرائم المرتكبة بحجة الدفاع عن العرض والشرف، إذ أشارت إحصائية قضائية سوريّة، نشرتها جريدة “الوطن” المحلية قبل خمسة أعوام، إلى أن عدد “جرائم الشرف” في تراجع خلال عامي 2012 و2013 إلى نحو 47 جريمة شرف، واصفة هذه الأعداد بالقليلة.
قاد “مرصد نساء سوريا” النشاط المدني الداعي لمناهضة تبرير القتل بحجة الدفاع عن العرض، ونظم خلال فترة نشاطه جملة من المحاضرات في عدد من المدن السورية، لكن هذا النشاط تراجع بشكل كبير خلال أعوام الثورة السورية.
الدراما تنبش المستور
تحررت الدراما الاجتماعية السورية مع بداية العقد الماضي من قيود اجتماعية ورقابية عدة، وكسرت قوالب نمطية، واستطاعت أن تعكس ظواهر وقضايا لم تكن مطروحة على الشاشات.
وتناولت مسلسلات عدة قضية “جرائم الشرف”، في إطار مناصرة العمل المدني الذي كان يأخذ شكل ندوات ومحاضرات وحملات يجريها المرصد.
طرح مسلسل “أهل الراية”، المنتج عام 2008 قضية قتل الفتاة التي يُشك بأخلاقها كظاهرة اجتماعية قديمة في المجتمع السوري، لكنه عالجها بطريقة درامية، إذ تمت تبرئة الفتاة لعدم وجود شهود على الفعل “المحرم” الذي ارتكبته.
وقبل ذلك، قدم مسلسل “سيرة الحب”، الذي أنتج عام 2007 في إحدى حلقاته صورة واقعية عن فتاة تُقتل من قبل عائلتها في جريمة لا تتم محاسبة مرتكبها لكونها متعلقة بقضية شرف.
مسلسلات وأفلام أخرى عدة تطرقت إلى الموضوع ذاته، بهدف تسليط الضوء على القضية، وتوعية المجتمع بخطورتها، لكن هذا الطرح لم يكن يقدم حلولًا عملية أو دعوات لاتخاذ إجرائيات قانونية تحد منها.
هذه التحركات بالمجمل، سواء على المستوى المدني والفني أو حتى الحقوقي، لا يبدو أنها أعطت نتائج ملموسة، خاصة خلال الحرب وما خلفته من أزمات على المستويات النفسية والاجتماعية والاقتصادية.
تسميات تحرض على الجريمة
اختلفت التسميات التي تصف حالة القتل العمد لامرأة خرجت عن عرف العائلة أو تجاوزت حدود الشرع والقانون السائد، إلا أنها بررت بمجملها ارتكاب الجريمة باسم “الشرف” وتحت تأثير مشاعر الاستفزاز التي ثارت في نفس مرتكبها.
فالسائد بين العوام في المجتمع السوري هو لفظ “غسل العار” فيما يشاع لفظ “جريمة الشرف” بشكل أكبر بين طبقة المثقفين والمناهضين لهذا النوع من الجرائم، وكذلك في الأروقة الإعلامية، أما القانون السوري فسعى إلى ضبط التسمية بشكل أكبر، وخرج بعبارة تكاد تكون أسوأ من سابقتيها وهي “جريمة قتل بدافع شريف”.
دعوات سورية خجولة لقلب مفهوم “الشرف”
لم تغفل المنظمات عن كارثة التسميات تلك، من منطلق أن دافع الجريمة قد لا يكون دائمًا بسبب “الزنى” أو العلاقات المحرمة دينيًا وقانونيًا، بل قد تكون في إطار زواج شرعي دون علم أو رضا الأهل، أو زواج من غير دين وغير طائفة، وهو أمر شائع كثيرًا في المجتمع السوري الذي تتعدد فيه الأديان والطوائف والمذاهب.
فظهرت دعوات إلى محاربة التناقض اللفظي وعدم ربط مصطلح الشرف بالجريمة، على اعتبار أن “الشرف” صفة نبيلة لا ينبغي أن تقترن مع لفظ “الجريمة”، الذي يعتبر فعلًا مشينًا مهما اختلفت دوافعه وأسبابه، كما أن تعاون مجموعة من الذكور الأقوياء على قتل أنثى أصغر حجمًا وأضعف بنية لا يتماشى مع “الشرف”، من منطلق لغوي، بل يتناقض معه تمامًا.
تلك الدعوات تجسدت كثيرًا في المجتمع العربي، إلا أنها غابت بصورة فعّالة عن المجتمع السوري، الذي انحصرت فيه الدعوات ضمن نطاق تشديد العقوبة على مرتكب الجريمة والدفاع عن الطرف الأضعف في هذه الجرائم، في حين غفلت المنظمات السورية الناشطة في هذا المجال عن مجابهة تسميات شريكة في الجريمة ومحرضة على ارتكابها.
ورغم ضعف الاستجابة الحقوقية السورية لمكافحة مصطلحات “الاستشراف” تلك، كانت حادثة جرابلس بمثابة صحوة بين السوريين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أثارها أحد الجناة حين استخدم مصطلح “اغسل عارك” لتحريض شقيق الضحية على قتلها، حيث انتشر وسم “جريمة اللا شرف” عبر مواقع التواصل الاجتماعي تنديدًا بالجريمة، مرفقًا مع رسم للفتاة في الوضعية التي قتلت عليها.
وتعليقًا على ذلك، قالت الكاتبة والناشطة السورية ريما فليحان إن “أولئك الذين يقتلون تحت مسمى الشرف هم كائنات مسعورة تفتقر للقوى العقلية والإنسانية”، معتبرة أن القانون “المتساهل” يشجع على ارتكاب الجريمة، وإلى جانبه المجتمع وأعرافه السائدة.
وأضافت فليحان، في حديث لعنب بلدي، أن التسميات التي تطلق على هذا النوع من الجرائم مرتبطة بالموروث الاجتماعي، الذي يختصر شرف العائلة بجسد المرأة وسلوكها، مشيرة إلى أن التسميات شريكة في الجريمة، إلا أنها ليست المحرض الوحيد على ارتكابها، بل توجد أسس أخرى أبرزها حماية القانون والمجتمع للمجرم.
وقالت، “نحن كناشطين في مجال حقوق المرأة كنا نعبر دائمًا عن رفضنا لفكرة ربط الجريمة بالشرف”.
خطورة إرفاق ألفاظ مثل “العار” و”الفضيحة” و”الشرف” وإقرانها بالجرائم، تكمن في أن تركيبة المجتمع وثقافته تنعكس من خلال لغته، التي تؤثر بشكل أو بآخر في تكوين الفكر الجمعي، إذ إن المصطلحات والمفردات الشائعة حول فكرة ما قد تؤثر في جوهرها وتدفع للتعامل معها بطريقة مختلفة، كما هو الحال في الجرائم المرتكبة باسم “الشرف”.