خطيب بدلة
كان أستاذُنا الأديب الكبير الراحل حسيب كيالي يَسْخَرُ من كاتب الزاوية الأسبوعية الذي يفتتح زاويته بعبارة: قرائي الأكارم، ماذا أكتب لكم هذا الأسبوع؟! يهب “حسيب” من استلقاءَتِهِ على الصوفاية في بيته القريب من حارة “جناين الورد” بدمشق، ويُلقي الصحيفة من يده، ويخاطب كاتبَ الزاوية، وكأنه جالس في مواجهته:
– وتسألنا، يا أخانا، ماذا تكتب لنا؟ بالله عليك، نحن أيش يدرينا ماذا يوجد في رأسك من أفكار عبقرية؟ يا سيدي، لا تعذب نفسك ولا تكتب لنا، أأنت تظننا نمضي نهارات الأسبوع ولياليه ونحن ننتظر موعد زاويتك القادمة لنهرع إلى أقرب كشك للجرايد ونشتري الجريدة ونُبْحِر بقراءتها؟ تضرب أنت والذي خصص لك زاوية أسبوعية أيها الكاتب الكاسد الذي تمسك القلم بيد، وتحك رأسك باليد الأخرى، حائرًا، متسائلًا عما يمكن أن تكتب لنا.
قرأتُ للأستاذ حسيب شيئًا من هذا القبيل، بقلمه وأسلوبه، في أواخر السبعينيات، أي قبل أن يغادر سوريا إلى دبي (1981)، وهو غادرها، كما أعلمُ، بعد أن طفح به الكيل من سيطرة المخابرات، وسرايا الدفاع، والوحدات الخاصة، على البلاد السورية، وكَتْمِهم أنفاسَ الناس، ومن حقارة الطغمة الإعلامية التي اشتغلت، منذ بداية انقلاب حافظ الأسد (1970) على تحطيم الكاتب الأصيل، ورَفْع الكاتب الوضيع، وجَعْل الخروف -على قولة أهل إدلب- بسعر أمه.. وأذكر أن أستاذنا حسيبًا نفسه “استلم”، ذات مرة، نصًا كتبه واحدٌ ممن خُصِّصَتْ لهم زاوية ثابتة في إحدى الصحف الثلاث، وصار يعدد للقراء الأماكن التي جعل فيها خبرَ إِنَّ منصوبًا، والفاعلَ منصوبًا، واسم كان منصوبًا، وختم جملته بالقول: آمنتُ بالله على هذا الرجل، كم يحب “النَصْب”!
بعد سفر أستاذنا حسيب، ودخولنا في حقبة الثمانينيات، وما رافقها من أعمال عنف ومجازر، أصبحت الأشياءُ التي كان يهجوها في مقالاته وأشعاره وقصصه ومسرحياته شيئًا بسيطًا، عابرًا.. وتحولت الصحف إلى بؤر للتكتل، تقاسمتْها مراكزُ القوى التي يرتكز عليها النظام الأمني، فهذا الكاتب الصحفي “محسوب” على القصر الجمهوري، وذاك على القائد رفعت، والثالث على مصطفى طلاس، والرابع على المخابرات العامة، والخامس على شعبة المخابرات العسكرية، ووو.. إلخ.
ابتداء من هاتيك الفترة أصبحت للكتاب والصحفيين وأشباههم قصص وحكايات، لعل أجملها قصص أولئك الذين التحقوا بالخدمة العسكرية، وإذا بالحظ يبتسم لهم ويُفْرَزُون للعمل في مجلة جيش الشعب، أو في إذاعة صوت القوات المسلحة، حماة الديار، أو في الإدارة السياسية للجيش والقوات المسلحة، أو التوجيه المعنوي، أو المجلات التي كان يرعاها رفعت، وبعض الأدباء كانوا يمضون سنوات الخدمة الأصلية مع الاحتياطية في “الجيش الشعبي” لا يتدربون، ولا يُعَاقبون، ولا يرتدون اللباس العسكري، وكل ما هو مطلوب منهم هو مساعدة “الرفيق الركن” الروائي محمد إبراهيم العلي في إبداع رواياته التي لا يقل وزن الواحدة منها عن 2 كيلوجرام، وتترجم إلى اللغات المعتمدة في الاتحاد السوفياتي الصديق..
وأما الكتاب المتمسكون بكرامتهم، وشرف مهنتهم، مثل عمي حسيب، فكان يقال لهم: باي باي، سلموا لنا على الكرامة والشرف والأخلاق والأخلاق الحميدة!