على أطراف هذه الصحراء.. ما يستحق الحياة

  • 2018/10/21
  • 10:58 ص

إبراهيم العلوش

ظلت البادية ثقبًا أسود في الثقافة العربية، فرغم الدراسات اللغوية والاجتماعية المتراكمة عبر العصور عن البادية والصحراء، ظل هذا الثقب يلتهم العقول والناس في متاهاته المتموجة بالسراب وبالظمأ وبالتيه، مقابل قيم الكرم والمروءة وصفاء الذهن، بالإضافة إلى الغدر والوحشية، وقسوة الحر والعواصف الرملية. وليس غريبًا أن تنتهي داعش إلى هذه البوادي والصحارى وتنبثق بين الحين والآخر، وقد تهجع لسنين طويلة ولكنها سترجع بلبوس جديد، وبوحشية مبتكرة، وغير متوقعة كما جاءتنا ذات صباح في عام 2014 ودمرت حياتنا باسم الإسلام، والإسلام منها براء.

داعش اختطفت 130 عائلة من مخيم للاجئين قرب هجين بدير الزور، وأخذت أكثر من سبعمئة نازح ونازحة، كغنائم وسبايا، وطبعا باسم الإسلام، تمامًا مثلما يأخذ النظام خيرة شباب سوريا إلى المعتقلات باسم العروبة والممانعة وتحرير فلسطين، أخذوا المخطوفين والمخطوفات أسوة بمخطوفي السويداء الذين يساومون عليهم، مقابل أثمان لا تستحق كل هذا الهدر لكرامة الناس العزل، ولا تعادل ذرة من الهلع والخوف في نفوس الأطفال المخطوفين، ولكن الداعشي يقنع نفسه بأنه مقاتل باسم الإسلام، مثلما يقنع جلاد المخابرات نفسه بأنه يدافع عن الدولة والنظام، ولا يمارس التعذيب إلا حرصًا على مصلحة المعذَّبين، وعلى أهلهم الذين ينتظرون أبناءهم وبناتهم بأعين مسهدة لا تقدر على النوم بانتظار خبر، ولو كان كاذبًا عن أبنائهم.

لماذا تزحف الصحراء إلى عقولنا وتتمكن الرمال من غمر إنسانيتنا، وتحول الرجال إلى جلادين، وإلى شبيحة، يفتقدون أبسط مفاهيم الكرامة والنبل، التي تليق بالإنسان وبالوطن وبالدين، لماذا وصلنا إلى هذا المآل الذي يجعل من محاصرة مئة ألف نازح في مخيم الركبان، في قلب الصحراء، عملًا وطنيًا تقوم به ميليشيات سوريا الأسد، وتخنقهم بكل لؤم الانتقام، ووحشية الذئاب المسعورة.

في الحضارات البابلية، والآشورية، التي ازدهرت حول وادي الفرات منذ آلاف السنين، كانت الملوحة تصعد من قلب الأرض، وتخرّب الأراضي الزراعية، وتقتل المزروعات، ويحتاج الأمر إلى مئة عام على الأقل لتنظيف الأملاح  المتراكمة في التربة، عبر غسيل طبيعي تقوم به الأمطار، والسيول والوديان، التي تصطحب الأملاح إلى خارج حقول المزروعات، وطبعًا يتكرر هذا الأمر كل ثلاثمئة سنة حسب خبراء الآثار في بلاد ما بين النهرين، والمدعوة ميزوبوتامية، والتي كانت ثالث حضارة تشارك الحضارة الفرعونية والحضارة الصينية القديمتين والمؤسستين للحضارة الحديثة.

الملوحة اليوم انتقلت إلى العقول، وإلى الأخلاق، ولم تعد تخرّب المزروعات وحدها، فهي تخرّب الإنسان وتخرّب المذاهب والمبادئ الراقية، وتحط من قدرها على أيدي الدواعش والشبيحة الذين يمزقون بلادنا، ويدمرون بيوتنا، ويهجروننا من وطننا، باسم الإسلام، وباسم العروبة والممانعة، وباسم ما تيسر من مبادئ يحملونها كشعارات، ولكنها لا تمت إلى أخلاقهم، ولا إلى تفكيرهم بأي صلة حقيقية.

بين معتقلات النظام التي يموت فيها شبابنا من الوحدة ومن التعذيب، وبين مخيم الركبان الذي يترك فيه مئة ألف إنسان يشربون المياه العكرة، وتصهرهم شمس العراء القاسية، وبين مخيم هجين الذي زرعه مقاتلو قسد بينهم وبين قوات داعش التي تنبثق من الصحراء المقابلة كل حين، بين هذه الأرجاء الثلاثة تتكاثف ملوحة العقول، وملوحة الأخلاق، وتهب رمال الصحراء فتعمي العيون والضمائر، وتحطم كل ما بناه أبناء سوريا، وأبناء الفرات من عمران حديث يرتقي بهم من الفقر والجهل إلى مصافي الاكتفاء والعلم، ويفتح لأبنائهم أبواب المستقبل، ليكونوا مركزًا حضاريًا جديرًا بالثقة مثلما كانوا أيام السومريين والبابليين والآشوريين، وفي عصر الإسلام الأموي والعباسي، وبحلة أخلاقية نبيلة لا تتدنى إلى غرائزية الدواعش، ولا إلى همجية قطعان الشبيحة المرتدين إلى العصور الحجرية، وهم يرددون شعارهم الطوطمي “الأسد أو نحرق البلد”.

هذه البلاد، وهؤلاء البشر، ليسوا بضائع للمساومة، ولا هم غنائم، ولا هم قطعان يسوقها من يحمل السلاح، هذه البلاد المترامية على أطراف الصحراء، كانت مركزًا للحضارة وقاومت رمل الصحراء، وملوحة المزروعات، واستمرت بطرق مبتكرة، وهي حتمًا ستتجاوز ملوحة العقول والأخلاق، التي تعصف بقطعان الشبيحة والدواعش، ومرتزقة قسد، هذه البلاد المنكوبة لن تنسى من رفع الظلم بوجهها وهجّر أهلها، هذه البلاد المتاخمة للصحراء ظلت عبر آلاف السنين تنتصر على الرمال، وتعيد بناء نفسها كل مرة، وتصدّر حضارتها إلى مختلف أرجاء المعمورة، وقد قام الناس بهذه الثورة من أجل أن يكونوا أحرارًا، وليس من أجل أن يكونوا قطعانًا من العبيد!

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي