خطيب بدلة
انتشر، قبل مدة، فيديو رهيب، تظهر فيه مجموعةٌ من الكذابين المحترفين، وهم يهاجمون سجن عدرا المركزي، بقصد تحويل السجن إلى (مَكْذَبة)، وليستمر التكاذب مدةً وجيزة، ثم يعود كل شيء إلى طبيعته، وحقيقته المؤلمة.
زُوِّدَت المجموعة المهاجمة، بطاقم من الإعلاميين المُرْتَبِكين، وبظني أنه لم يكن ينقصها غيرُ المذيعة التي تحدثت، في فيديو آخر، عن أبي علِيٍّ المعري، وأبي فارس الحمداني، وأبي نِغَال الحلبي.
الارتباك بدأ من الاستوديو المركزي، حينما ظهرت مذيعة الفترة وكأنها شاردة، تستمتع بوجود فاصل إعلاني، ولم تنتبه لعودة الكاميرا إليها، فقالت: السجناء في سجن دمشق المركزي بعدرا يشاركون في.. وتوقفت لا تدري ما تفعل، ونظرت في الورقة التي أمامها وقالت: ورشةٍ.. ثم صححت: ورشةِ عملٍ فنية وثقافية من داخل السجن.
يعرض مخرجُ الفقرة، بعد هذا التقديم المرتبك، التقريرَ العجيب الذي يتحدث عن كون الورشة ثقافية، اجتماعية، توعوية، تفاعلية، تطبيقية… ولولا الحياءُ لقال إنها تنتمي لخط الممانعة، وتعادي الإمبريالية، والصهيونية، والرجعية، وأذناب الاستعمار! ثم يظهر، في داخل التقرير، ضابط عسكري برتبة عقيد، يرتدي ثياب الميدان الكامل، ويقف أمام الكاميرا على نحو نظامي، ويبدأ الكلام الذي يستخدم فيه الفعل المساعد “تَمَّ”، بمعدل ثلاث “تَمَّات” في الثانية، قائلًا إن هذا الورشة تقامُ بمناسبة الانتصارات التي “تّمَّ” تحقيقُها من قبل الجيش العربي السوري الباسل على الإرهابيين، فـ “تم” إقامة هذه الورشة برعاية كريمة من إدارة السجن.
بعد انتهاء التصريح الذي “تَمَّ” تقديمه من قبل سيادة العقيد، “تَمَّ” الانتقال إلى فترة تكاذبية تفاعلية، “تم” خلالها تبادل الأكاذيب بين إداريي السجن والسجناء المساكين الذين يعانون، تاريخيًا، من الظهور بمظهر مَنْ يُضْطَرُّ لمديح إدارة سجنه، والقيادة الحكيمة لبيت حافظ الأسد، غصبًا عن الذين خلفوه! وفي أوج ارتفاع معدل الكذب في التغطية الإعلامية يظهر الأستاذ نِضَال الصالح، رئيس اتحاد كتاب الأوتوستراد، ويقول، بلغته المقعرة المعروفة، إن فضاء السجن يبدو فضاءً يقيد الحرية، ولكنه اليومَ، فضاء للحرية، فضاء للتعبير، فضاء للإبداع. (كذا).
الإخوةُ السوريون الذين تجاوزوا سن الأربعين، يتذكرون برنامج “الشرطة في خدمة الشعب” الذي كان يُعْرَضُ على التلفزيون السوري، وفيه السجناءُ الجنائيون يقفون مثل “اللام ألف” أمام المذيع علاء الدين أيوبي، ويتحدثون عن حُسْن المعاملة التي لا تُصَدَّق، ويذكر كل واحد منهم عدد سوابقه في السرقة، ويعلن توبته وندمه عن آخر سرقة (لأنه لو كان من النوع الذي يتوب بشكل نهائي لما كان صاحبَ ست أو سبع سوابق، مثلًا!). الآن، في سجن عدرا، الوضعُ تغير، فهنالك فنان يعرض لوحاته، وفرق مسرحية تعرض أعمالها، وفتاة تشبه نجمات السينما المصريات اللواتي كن يجلبن الزبائن إلى شباك التذاكر، تتحدث عن “الإبداع” في السجن، والمشاركة في “بوازير لبيع المننتجات”، وتنتهي إلى القول: صحيح نحن أخطأنا، ولكننا، وبفضل إدارة السجن، أصبحنا أسوياء.
وينتهي التقرير بأعجوبة بلاغية لم يسبق لها مثيل منذ ما قبل المرحوم يوسف الصيداوي، إذ يقول المذيع: تثبتُ أنها مؤسساتٌ إصلاحيةٌ ومرشدةٌ، وليست “مؤسسات” للعقاب!
https://www.youtube.com/watch?v=w7AhVT82MY8