كانت سماء الرحيبة الشاسعة ملعبًا للصقور التي لا تقيدها الحدود، لكن الدهر انطوى عن ذلك الزمان، وغاب الطائر الحر، وأخذ معه كل من نادى بالحرية.
كانت الرحيبة من أولى مدن القلمون التي انضمت إلى الاحتجاجات الشعبية في سوريا عام 2011، وقد عانت إثر ذلك من الحصار والقصف مرات عديدة، وعلى الرغم من أن أهلها لم يضطروا لنزوح جماعي، إلا أن تسوية عقدت في نيسان من عام 2018 مع النظام، أدت إلى تهجير أكثر من 1500 من مقاتلي فصائل المعارضة الذي كانوا يسيطرون على المدينة وعائلاتهم إلى جرابلس وإدلب.
سميت الرحيبة لاتساعها، وتقع على بعد 50 كم إلى الشمال الشرقي من العاصمة دمشق، وتمتد من جيرود (شمال غرب) والضمير (شرق) ومعضمية القلمون (جنوب) وتنفتح شرقًا على بادية حمص.
يزيد تعداد أهلها عن 30 ألفًا، حسب إحصاء عام 2004، وقد شهد هذا الرقم تحولات كبيرة إثر التزايد السكاني، واستقبال المدينة لأعداد كبيرة من النازحين، إضافة إلى نزوح عدد من عائلاتها وهجرة آخرين.
الداخل إليها لن يتوقع منها الكثير، فهي كغيرها من مدن وبلدات سوريا الريفية، تعاني من الإهمال، طرقاتها مليئة بالحفر، تنقصها الكثير من الخدمات، لكنها تخفي في جعبتها من المزايا الكثير.
راح العنب واختفت الطيور.. وبقي الحجر
الماضي يقول إن أراضيها خصبة، وكانت تنتج العنب والمشمش والتين والرمان، إلى أن جفت ينابيعها خلال فترة السبعينات من القرن الماضي، وتموضع اللواءان 81 و20 في محيطها، ما حد من مناطقها الزراعية، فاتجهت لاستثمار حجر الرخام من جبالها.
للحجر الرحيباني شهرة واسعة في أنحاء سوريا، وتنتشر اليوم على أطراف المدينة مناشر الحجر والرمل.
أما طيورها الجارحة ذائعة الصيت، فكان يقام لها سوق لا يزال ماثلًا في ذاكرة أهلها، حيث كان الصيادون يقومون بعرض الباز والشاهين، وغيرها من الطيور الحرة لهواة الصيد، ومنهم الأمراء والملوك.
لم يتخل صيادو الصقور عن مهنتهم، ولكن ندرتها منذ سبعينيات القرن الماضي، دعتهم للبحث عنها خارج المدينة.
هجرات أبنائها متكررة إلى كافة أنحاء المعمورة، ولكن الرحيبة بقيت حاضرة في قلوبهم ودعتهم غالبًا للعودة وهم محملون بتجارب وثقافات جديدة، وكان المثال الأوضح لذلك في نبتة المتة التي أحضرها من هاجر إلى الأرجنتين في مطلع القرن الماضي، وأصبحت المشروب الأول في المدينة في كل مقام ومحفل.
تنتشر فيها الآثار المنسية، فما زال يجدها سكان المدينة حين يتعمقون في حفر أرضها لسبب أو لآخر، وأشهرها معبد روماني تم تحويله إلى مسجد يدعى (جامع الحجر).
يتبع أهلها المذهب الحنبلي، الذي ينتشر في مناطق قليلة من محيط دمشق، ومن علمائها المشهورين الشيخ مصطفى السيوطي وابنه سعدي السيوطي اللذين توليا مقام مفتي الحنابلة بدمشق خلال العهد العثماني، ولهما مؤلفات في الفقه.
لم تكن احتجاجات عام 2011 أولى الاحتجاجات التي عاشتها المدينة، ففي شهر حزيران من عام 2009 حدث فيها ما وصفته التقارير الحكومية حينها بـ “أعمال شغب” استدعت انتشار قوات الأمن، وإطلاق الغازات المسيلة للدموع، وأعيرة الرصاص الحي، الذي أودى بحياة طفل كان من بين المتفرجين، كما اعتقل العديد من الشبان، الذين لم يحملوا تهمة سوى الدفاع عن حقوق جيرانهم الذين هدمت بيوتهم المخالفة، جراء “فساد” رئيس البلدية.
أما احتجاجات الحرية، فقد اعتقل على أثرها المئات وتأكد مقتل 25 منهم تحت التعذيب، وما يزال أكثر من 170 معتقلًا في سجون النظام بينهم 4 نساء، كما قتل 102 مدني جراء قصف النظام وعملياته العسكرية، و150 عسكري شاب ينتمون للفصائل العاملة في المنطقة، حسب إحصاء لجنة التفاوض مع الروس إبان الاتفاق على تسوية “التهجير”.