منصور العمري
جلستُ وراء الكاميرا، أنظر إلى يوسف الذي يستعد ليروي تفاصيل تعرضه لانتهاك جنسي خلال اعتقاله في المخابرات الجوية بدمشق. كانت زوجته خلفي.
“أدخَلَ مقدمة الروسية في مؤخرتي، وبدأ بتدويرها”، لم يكد ينهي يوسف هذه الجملة حتى انهار ألمًا وبكاء. شعرت بالتفاؤل.
جيد! لا تزال آثار التعذيب واضحة على جسده.
كم هو جميل مشهد يدِ رضيعٍ رقيقة ومشوهة، ممتدة خارج ركام بيته، ترتعش حياةً!
لا يُسعدني في هذه الحياة سوى التعرف على صورة صديق قُتل تحت التعذيب بين صور سيزر، أو سماع خبر اكتشاف مقبرة جماعية لضحايا داعش.
يُمتعني رؤية امرأة ثمانينية شريدة، استظلت بشجرة وحيدة، في سهل مقفر. فقدت كل أولادها، وانتظرت شربة ماء.
قبل الحرب في سوريا، اعتدت على قضاء أوقات راحتي في مقهى، أو مسبح، أو سينما، أو مع الأصدقاء، أما اليوم، فأصبحت هوايتي المفضلة البحث عن أخبار القتل والتعذيب والاغتصاب والذبح، بكل جِدّ، وقضاء الوقت مع صور الموتى وفيديوهات الفظائع الجماعية.
تحولتُ إلى مستوعب شره للكم الهائل من الأخبار والصور والمرئيات العنيفة والمرتبطة بالجرائم والانتهاكات بما فيها من دماء وأشلاء.
تماهيت مع هذه الفظاعات، وأصبحت جزءًا من حياتي، تعتمل في داخلي بإدراكي أو دونه. اختلفت علاقاتي مع أصدقائي وعائلتي، وحتى مع نفسي التي لم أعد أعرفها أحيانًا.
كانت فيروز تلون إشراقة فجري، وأردد معها “طيري يا طيارة”، أما اليوم فأبدأ صباحي بالإنصات لصافرات إنذار مشفى قصفه طيران الأسد أو بوتين، من يدري؟ ما أعرفه أني أعيد نظري في طيارة الورق.
أعيد النظر في البديهيات، حتى في تركيب المشاعر البسيطة.
أصبحت معادلات مشاعر الفرح مستحيلة الحل، واختلّت كيمياء الرضا لدي، فصرت أشعر بالتفاؤل إن تحدث لي أحدهم عن الانتهاكات التي تعرض لها، كي أستطيع تسليط الضوء على هذه الجريمة. أشعر بالرضا حين أرى إنسانًا خسر كل شيء، أحباءه، بيت طفولته، وحتى أطرافًا من جسده، وتعرض لشتى أنواع التعذيب والتنكيل والتشريد، لكنه بقي حيًا، ويفكر في مستقبل أفضل.
صارت صورة القتيل تحت التعذيب، أو المقبرة الجماعية التي تفضح الجريمة وتزيل الستار عن الأهوال الخفية في الحرب السورية، هي أثمن هدية، هي الدليل أو الوثيقة التي ستواجه المرتكب، وتحيله يومًا إلى العدالة.
كلما اعتقدت أن قلبي تربع على عرش الألم، وأني رأيت الأفظع والأشد إيلامًا في الحرب السورية، ينتفض من بين ركامها وحش كان خفيًا، ليدمي قلبي الذي أتعب ميدوسا.
قبل أشهر، أوقف غيتن موتو قلبه تاركًا رسالة انتحار تحدث فيها عن ضغط العمل الكبير، وعدم حصوله على المساعدة المرجوة، خلال عمله لمنظمة العفو الدولية المعروفة بمناصرتها لحقوق الإنسان والمعتقلين بشكل خاص. بعده بشهرين، انتحرت روز ماكغريغور بسبب ضغط العمل أيضًا في المنظمة ذاتها.
أجلس مع نفسي، بين الحين والآخر، وأسألها عن سبب استمراري في هذه الفوضى الذهنية وانصياعي لدوامتها. لماذا لا أستسلم وأنهي معاناتي. ربما، لأني كنت معتقلًا، ورأيت بأم عيني الأهوال التي يتعرض لها ضحايا الاعتقال، ثم نجوت. لم يعد أخلاقيًا بالنسبة لي تجاهل ضحايا العذابات التي ذقتها. قد يكون أفظع ما يمكن أن أفعله هو التفريط بما ضحى من أجله الآخرون، المعتقلون الذين يصارعون الموت يوميًا كي يحافظوا على حياتهم. ربما لأنني خسرت كل شيء، من بيتي إلى بلدي وذكرياتي، ولم أعد أرى شيئًا آخر في الحياة أكثر أهمية من محاولة إنقاذ ولو حياة واحدة، أو فضح جريمة، سأستمر. ربما لا هذا ولا ذاك، بل كي أمارس واجبي في الدفاع عن الضحايا في عالم يبدو أنه يستمرئ الظلم، بل أسوأ.. يجاهر به.