إبراهيم العلوش
حلَّ قرار السادات بطرد الخبراء الروس من مصر بشكل فاجع على القوى والأحزاب اليسارية العربية، ولكن لم يكن لأحد منهم أن يتصور أن هذا الطرد الذي حصل في 8 من تموز1972، هو ما جنّب مصر مذبحة كبيرة يقودها الجيش المصري ضد ثورة 25 من كانون الثاني 2011، فالخبراء الروس الذين ارتكبوا جريمة تدمير سوريا على يد الجيش السوري الذي كانوا يدربونه طوال أكثر من نصف قرن على كراهية المجتمع، واعتباره عدوًا، لم يكونوا موجودين في مصر ليديروا مثل هذه المذبحة، فالإمبريالية الأمريكية كانت أرحم على المصريين، من الوحشية الروسية التي أسسها الاتحاد السوفياتي الصديق في سوريا. وما الجريمة الكبيرة التي قادها السيسي في ميدان رابعة إلا حدث يومي في سلسلة التدمير الروسي الإيراني في سوريا.
طَردُ الخبراء الروس كان الخلاص المبكر والإفلات من الهيمنة الروسية، ومن المصير السوري للجيش المصري، فالجيش السوري وقع في براثن النازية الروسية، التي كانت تعتبر المدنيين أعداء لها، ويجب سحقهم بشكل دوري، واعتبارهم مجرد مجموعة من الخونة المحتملين، وصار هذا الجيش أداة للتدمير، والتخريب بأوامر روسية- إيرانية، فالنخب العسكرية السورية المعبأة طائفيًا من قبل طاقم القيادة الأسدية، ومن قبل الإيرانيين، دفعتها القوى العسكرية الروسية إلى تصعيد التدمير والتخريب بشكل أذهل حتى مؤيدي النظام، وقد صرح الإيرانيون بأنهم تعاونوا مع الروس في تدمير سوريا، ومنعهم الروس لاحقًا حتى من التفاوض مع القوى المعارضة، ومع الدول الداعمة لها، وما القطيعة الإيرانية مع الخليج إلا بتحريض روسي، كما صرح أكثر من مسؤول إيراني، خاصة بعد أن بدأ الروس الاستجابة للضغوط الغربية من أجل ترحيل الميليشيات الإيرانية من سوريا.
لقد تواطأت النخب الشيوعية واليسارية، في التحالف مع الروس، وحتى الأحزاب الشيوعية التي تمردت على التبعية لموسكو، لم تول محاربة الهيمنة الروسية على الجيش السوري أي اهتمام، قبل أن تحل كارثة الدمار الروسية الإيرانية على البلاد، تمامًا مثلما تواطأت النخب الدينية على القبول بالدولة الدينية على النمط الإيراني، وبشكل مذهبي آخر، على مبدأ الاستغلال السياسي لشعار “الإسلام هو الحل”، كما يطرحه الإخوان المسلمون ومشتقاتهم التي تنوعت حتى حدود النصرة وداعش.
فليس حافظ الأسد وحده من مهد الطريق لهذا الدمار في سوريا، بل إن مختلف الأيديولوجيات الرومانسية التي كانت سائدة في سوريا خلال النصف قرن السابق كان لها دور في الدفع إلى هذا الطريق، وإن كان دور النظام السوري هو الأكبر، والأكثر تنظيمًا، والأكثر قصدية في الدفع إلى هذا المسار.
لم تتحالف دولة مع الروس إلا وكانت دولة فاشلة مثل اليمن الجنوبي، وليبيا، وأفغانستان، والعراق، وكوبا، وكوريا الشمالية وأوروبا الشرقية.. وها هي إيران تلحق بركب الدول الفاشلة التي خلّفها الروس، ناهيك عن تدمير سوريا أرضًا وشعبًا، وتحويلها إلى ساحة لتدريب القوات الروسية وتجريب أسلحتها.
الروس قتلوا أكثر من 18 ألف سوري من المدنيين، ودمروا 800 مستشفى، وشرد القصف الجوي أكثر من مليونين ونصف المليون سوري من بيوتهم، ودعموا استعمال الأسلحة الكيماوية في 48 هجومًا بالأسلحة الكيماوية، بالإضافة إلى متاجرتهم بالمعتقلين السوريين، ودعم موتهم في زنازين النظام، ريثما تنال الدبلوماسية الروسية مزيدًا من المكاسب والهيبة على طاولات التفاوض. وقد حوّلوا البلاد إلى حقل تجارب لأسلحتهم، وألحقوا الدمار بكل سوريا، واعتبروا منظمات الإنقاذ المدنية، كالقبعات البيضاء، منظمات إرهابية، لأنها تُخرج الأطفال من تحت الأنقاض، وتصور الطائرات الروسية، وهي تلقي أسلحتها الكيماوية على المدنيين لإخضاعهم. ويفتخر أحد المحللين الروس بأن روسيا حولت مدينة حلب إلى غروزني جديدة، عدا أن الصحافة الروسية، والتقارير الرسمية، صارت تتداول مصطلح الانتداب الروسي لسوريا، على عكس ما يروّج الشبيحة، بأن الروس هم منقذو الدولة السورية!
ورغم أن اليسار العربي لا يزال يغني لروسيا، التي ستهزم الإمبريالية العالمية! ولا يزال يرفع مظلاته المهترئة عندما تمطر في موسكو، فإن قرار السادات بطرد الخبراء الروس كان قرارًا استثنائيًا، جنّب مصر نمو التوجه النازي الروسي داخل الجيش المصري، فهذا الجيش رغم قمعه للشعب المصري، وللناشطين السياسيين، لم يرتكب جرائم كبرى ومتواصلة، مثل الجيش السوري، الذي أفلس وطنيًا وأخلاقيًا في تنفيذه للأوامر الروسية والإيرانية.
مستقبل سوريا مرتبط بالخلاص من الاحتلال الروسي الإيراني أولًا، ومن ثم من كل الاحتلالات الأخرى، فالروس سيلحقون المزيد من الدمار بمستقبل سوريا بشكل منظّم، بينما الهمجية الإيرانية، الانفعالية، والطائفية، ستتمزق سريعًا، وما حرق مقرات هيمنة إيران في البصرة إلا شاهد مبكر على قصر نظر الإيرانيين، ووحشيتهم الطائفية والقومية الفاقدة لمقومات الاستمرار. بينما الروس يمتلكون إرثًا في إذلال الشعوب الأخرى، سواء المجتمعات والأقليات داخل روسيا نفسها، أو الشعوب المحيطة بروسيا، وصولًا إلى أوروبا الشرقية التي خنقتها روسيا طوال نصف قرن منذ بدء الحرب العالمة الثانية 1939 حتى 1990، تاريخ انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي كانت روسيا تشكل 80% منه، ولم تأبه روسيا أبدًا بأي بعد أخلاقي، أو إنساني في تعاملها مع تلك الشعوب.
أما قيم حقوق الإنسان فهي مثار للسخرية طوال المئة عام الماضية من التاريخ الروسي على الأقل. ولعل تعليق ماريا زاخاروفا يعطي علامة مهمة للسياسة الروسية، وهي الناطقة باسم الكرملين، عندما سئلت عن مقتل أطفال سوريين بالقصف الروسي فردت منفعلة: لا تبالغوا.. إنهم مجرد أطفال!