عنب بلدي – ضياء عودة
تقف محافظة إدلب أمام تغييرات جذرية مع بدء تنفيذ الاتفاق التركي- الروسي، الذي نص على إنشاء منطقة منزوعة السلاح لإيقاف المعارك بين النظام السوري والمعارضة، وتترقب مرحلة مقبلة تتعلق بشكل الإدارة المدنية وكيفية إدارة الموارد فيها.
وفي حين احتفظت المنطقة بموارد ثابتة على رأسها معبر باب الهوى، يتوقع تقلص موارد أخرى من بينها المعابر الأربعة التي أدارتها الفصائل العسكرية مع مناطق سيطرة النظام طوال السنوات الماضية.
في مقاربة للمشهد والظروف أطلق محللون في الأيام الماضية على إدلب اسم “قطاع”، كفكرة استنسخت عن قطاع غزة وخطة فك الارتباط الأحادي التي قامت بها إسرائيل في عام 2005، ليتحول إلى منطقة فقيرة الموارد لها اتصال واحد فقط هو معبر رفح.
ربما تشابه إدلب قطاع غزة في الظروف العامة، سواء من الحصار أو الموارد الطبيعية الشحيحة فيه، فالمحافظة تفتقر لآبار النفط والثروات الباطنية مثلًا، ولا يوجد لها أي منفذ على البحر من شأنه إنعاش الحركات التجارية، لكنها قد تختلف في شكل الإدارة، والتي من المتوقع أن تشابه ما عملت عليه تركيا في منطقة عفرين وريف حلب الشمالي.
ولم يحدد نص الاتفاق الموقّع في “سوتشي” شكل الإدارة في إدلب، إذ لا تزال التساؤلات تدور حول ذلك سواء في حال عودة مؤسسات النظام السوري بإدارة لا مركزية أو بقاء المنطقة في يد المجالس المحلية التابعة للمعارضة، ومن المقرر أن تبدأ مؤسسات المعارضة المتمثلة بـ “الائتلاف السوري” و”الحكومة السورية المؤقتة” بالعمل على خطة إدارة مدنية جديدة من شأنها إعادة التنظيم للمنطقة، على خلاف ما عانت منه في السنوات الأخيرة.
وتحاول عنب بلدي مناقشة واستشراف الوضع الاقتصادي الذي ينتظر إدلب عقب تطبيق بنود الاتفاق، وتحديد الموارد التي من الممكن أن تعتمد عليها المجالس في أعمالها الخدمية وغيرها، بعد إغلاق الوصلات التجارية غير الرسمية والتحول لفتح الطرقات الرئيسية.
“وصلات” تغلقها المنطقة العازلة
اتجهت الفصائل العسكرية العاملة في إدلب عقب السيطرة عليها، في آذار 2015، وخاصة “هيئة تحرير الشام” و”حركة أحرار الشام” إلى البحث عن موارد اقتصادية تتيح لها الاستدامة على الأرض من جهة، وفرض سيطرتها العسكرية على المدى الطويل من جهة أخرى، فكانت المعابر أو الوصلات التجارية مع مناطق سيطرة النظام السوري السبيل الأمثل إلى ذلك، وإلى جانبها معبر “باب الهوى” المورد الاقتصادي الأبرز الذي استحوذت عليه “تحرير الشام” بشكل كامل، رغم الإعلان عن إدارة مدنية تعنى بإدارته ووارداته.
توزعت المعابر على الشريط المحاذي لإدلب، وكان أبرزها العيس في ريف حلب الجنوبي والمنصورة في الريف الغربي، إلى جانب معبري مورك في ريف حماة الشمالي وقلعة المضيق في الغربي.
لكن وبحكم موقعها على خطوط التماس مع النظام السوري، أدرجت هذه المعابر ضمن حدود المنطقة منزوعة السلاح التي حددت بعرض 20 كيلومترًا في مناطق سيطرة المعارضة، ما يعني إغلاقها، للانتقال إلى الطرق الرسمية المحددة بطريقي دمشق- حلب، واللاذقية- حلب.
وعلى مدار السنوات الثلاث الماضية شهدت إدلب تناحرًا بين فصائلها للاستحواذ على الموارد المتمثلة بالمعابر، والتي يفضي إغلاقها إلى تجميد الحصة الأكبر من الدعم اللازم لاستمرار أي فصيل في مسيرته العسكرية، إلى جانب توقف بعض الخدمات القائمة عليها والتي ربطتها مؤخرًا “حكومة الإنقاذ” بمشاريع خدمية داخل مدينة إدلب.
واختلفت السيطرة على المعابر بحسب الجهة النافذة في المنطقة، إذ تولت “تحرير الشام” إدارة معبري العيس ومورك، أما معبر قلعة المضيق فكان ضمن نفوذ “أحرار الشام”، ومعبر المنصورة افتتحته “حركة نور الدين الزنكي” منذ أشهر.
وفي حديث سابق مع المسؤول الأمني لمعبر مورك، “أبو الهدى صوران”، قال إن فتح المعبر “أنعش المناطق المحررة بالكامل والمناطق المنكوبة كمورك وخان شيخون والمناطق الواقعة عليه، كما يخفف من حدة القصف على المناطق المذكورة”.
بينما قالت مصادر مطلعة من ريف حلب الجنوبي لعنب بلدي، إن عائدات معبر العيس يوزع قسم منها إلى “حكومة الإنقاذ” والآخر للأمور العسكرية الخاصة بـ “تحرير الشام”.
فقيرة أم مكتفية؟
تنحصر محافظة إدلب في بقعة جغرافية غير واسعة في الشمال الغربي لسوريا، إذ تقدر بحوالي ستة آلاف كيلومتر مربع، إلى جانب أرياف من حلب وحماة واللاذقية ما زالت تحت سيطرة المعارضة، وتخضع المنطقة لحصار كامل من النظام السوري، لكنها تمتد على شريط طويل مع الحدود التركية من جهتها الشمالية، ومفتوحة على تركيا من معبر باب الهوى الحدودي.
قبل أحداث الثورة السورية عام 2011 لم تلق إدلب الاهتمام الذي كانت توليه حكومة النظام السوري لبقية المحافظات الرئيسية في سوريا، وخاصةً من الناحية الاقتصادية المرتبطة بقطاعات الزراعة والصناعة والتجارة، إذ بدت المحافظة كمنطقة “منسية” لا تتوفر فيها مشاريع اقتصادية كبيرة، رغم توفر المقومات اللازمة لذلك كونها حدودية ومعروفة بخصوبة أراضيها.
حاليًا ومع الاستقرار والهدوء النسبي الذي حل في المحافظة، تتجه الأنظار للموارد التي قد تعتمد عليها إدلب المكتظة سكانيًا (نحو أربعة ملايين نسمة بحسب فريق منسقي الاستجابة في الشمال السوري)، وتطرح التساؤلات عن المصير الاقتصادي الذي ستكون عليه، هل ستكون فقيرة أم قد تشهد نشاطًا اقتصاديًا؟
يرى الأكاديمي والوزير السابق في “حكومة الإنقاذ”، ياسر نجار، أن إدلب مكتفية على مستوى الإنتاج الزراعي، وكانت سلة لسوريا في إنتاج الزيت والزيتون، إلى جانب الرمان والمحاصيل الزراعية المختلفة التي كانت توردها إلى المحافظات السورية كافة، لكنها تواجه اليوم مشكلة في التسويق، ويرتبط ذلك بالفارق بين كمية الإنتاج والاستهلاك، والذي يعطي فائضًا.
ويقول نجار لعنب بلدي إن اتفاق المنطقة منزوعة السلاح يعطي أثرًا إيجابيًا للمحافظة، إذ يمهد للاستقرار على المستوى الاقتصادي وتسويق البضائع سواء المنتجة في إدلب أو البضائع التي تمر “ترانزيت” عبرها، والتي يعود منشؤها في الأساس إلى الدول الأجنبية وتركيا.
ورغم إغلاق معبري مورك وقلعة المضيق في الأيام الماضية، يتوقع نجار أن يتم فتحهما بعد تثبيت الاتفاق على الأرض بشكل كامل، مشيرًا إلى أبعاد اقتصادية وتجارية جديدة ستفرض في المنطقة أبرزها حركة “الترانزيت”.
في تصريح لوكالة سبوتنيك، عام 2017، قال مدير مكتب الزيتون في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي، محمد حابو، إن المساحة المزروعة بأشجار الزيتون في محافظة إدلب بلغت 128554هكتارًا، وعدد الأشجار الكلي يفوق 14 مليون شجرة، والمثمر منها 13مليون شجرة.
وتوقع الإنتاج في 2017 حينها بـ 67983 طنًا، مشيرًا إلى أن عدد معاصر الزيتون في المحافظة بلغ في عام 2014 حوالي 118معصرة. |
ويعتبر معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا العصب الاقتصادي الرئيسي لإدلب، والذي كان نقطة صراع بين الفصائل الكبرى في السنوات الماضية، على خلفية العائدات الكبيرة التي يعطيها للطرف الذي يمسكه ويديره.
ولا توجد أرقام رسمية عن العائدات الشهرية التي تصدر عن المعبر، لكن الحركة التجارية لم تتوقف عبره حتى اليوم، رغم توالي الأطراف المسيطرة عليه.
يوضح نجار أن “باب الهوى” يعتبر أهم معبر في سوريا، وفي السنوات التي سبقت الثورة كان يمر عبره من ستة آلاف إلى سبعة آلاف سيارة في اليوم، تتجه من سوريا إلى الخليج والأردن وجزء للتجارة الداخلية.
ومن المتوقع أن تشهد الأيام المقبلة حركة مضاعفة للسيارات الشاحنة، وبحسب نجار، فإن أبرز الموارد لإدلب حاليًا هي “الترانزيت” ومعبر باب الهوى، ويضاف إليها البضائع المحلية وزيت الزيتون، والذي قد تشهد أسعاره تحسنًا في العام الحالي قياسًا بالسنوات السابقة.
خط بضائع.. العائدات للنظام والمعارضة
وفي سياق الحديث عن الموارد الاقتصادية التي ستعتمد عليها إدلب في المرحلة المستقبلية، جاء في نص اتفاق “سوتشي” فتح الطريقين الدوليين دمشق- حلب واللاذقية- حلب (M4,M5)، وبحسب ما أعلنت تركيا على لسان وزير خارجيتها، مولود جاويش أوغلو، ستتم العملية مع نهاية عام 2018.
ويعتبر عبد المالك النهار، الحاصل على ماجستير في الاقتصاد، أن فتح الطرقات له أثر كبير على المحافظة، إذ يقوي النشاط التجاري، ويؤمّن الموارد اللازمة لدعم جميع القطاعات الاقتصادية سواء الزراعة أو الصناعة وغيرها.
ويقول الأكاديمي لعنب بلدي إنه لا يمكن القول إن إدلب مكتفية ذاتيًا، كون “الاكتفاء” يحتاج لشروط محددة، ومقومات ليس من السهل توفرها في أي منطقة.
وبوجهة نظره يمكن قياس حجم الفوائد التي قد تنعكس على النظام السوري والمعارضة من خلال الوقوف على النظام الجمركي الموجود في مناطق الطرفين، وحجم الضرائب المفروضة على النقل بالعبور في إدلب.
وتتقاطع رؤية النهار مع الوزير السابق في “حكومة الإنقاذ”، والذي يشير إلى أن مناطق الترانزيت ستكون لها أبعاد كبيرة مستقبلًا، وهو واقع تعيشه محافظة إدلب.
ويوضح أن البضائع التي يتم استيرادها بريًا لا يكون لها عبء على النظام السوري، وستعطي الطرق الدولية منعكسات إيجابية على المحافظة استنادًا إلى كم البضائع الهائل الذي سيمر عبرها.
وتأتي حاجة النظام السوري إلى البضائع المستوردة بريًا، وبشكل خاص القادمة من الشمال، لأنه لا يملك وفرًا من القطع الأجنبي، إذ سيتخلص من عبء الاستيراد بالدولار معتمدًا على تجار القطاع الخاص في المناطق “المحررة” في إدلب، الذين يستفيدون بتحريك تجارتهم ومضاعفتها بالاستفادة من الطرق المفتوحة.
ويعتبر أوتوستراد دمشق- حلب من أبرز الطرق الاستراتيجية، وهو يربط العاصمة السياسية (دمشق) والمنطقة الجنوبية بالشمال والعاصمة الاقتصادية (حلب).
إدارة خارج المنطقة العازلة
على الجانب الآخر لا يمكن البدء بأي نشاط اقتصادي في إدلب في الوقت الحالي، وذلك لغياب الإدارة المدنية المتوافق عليها، والتي من المفترض أن تستلم جميع الموارد الاقتصادية وتعمل على تفعيلها خدميًا كتحريك المشاريع وتنشيط الاستثمارات.
ودار في الأيام الماضية حديث عن تحضيرات تقوم بها “الحكومة السورية المؤقتة” و”الائتلاف السوري” المعارض لوضع خطة إدارة للمحافظة، كإحدى الخطوات التي تسير بالتوازي مع تطبيق بنود الاتفاق التركي- الروسي.
وفي تصريحات لرئيس “الائتلاف السوري”، عبد الرحمن مصطفى، في أثناء زيارته لإدلب، قال إن هناك حاجة كبيرة لوضع خطة لإدارة محافظة إدلب بعد توقيع اتفاق حصل على ترحيب دولي بشأن منع أي عملية عسكرية ضد المدنيين فيها.
وأكد أن ذلك من شأنه ترسيخ الإدارة المدنية في المنطقة من خلال “الحكومة السورية المؤقتة”.
ويقول مسؤول العلاقات الإعلامية في “الحكومة المؤقتة”، ياسر الحجي، إن الحكومة تسعى لاستقرار الأمور المدنية في إدلب، عن طريق تشكيل المجالس المحلية في إدلب وريفها وإعادة تفعيلها، بعيدًا عن المناطق المشمولة في المنطقة منزوعة السلاح.
ويضيف الحجي لعنب بلدي أن إدلب منطقة غنية بالموارد الاقتصادية، مشيرًا إلى أنه في حال تفعيل المجالس المحلية ستكون المنطقة من جرابلس حتى المنطقة العازلة متواصلة اقتصاديًا، وتتبع لـ “الحكومة المؤقتة”.
وبحسب تصريحات الحجي تغيب مساحات واسعة في إدلب وأرياف حماة عن خطة “الحكومة المؤقتة”، والتي تقع ضمن المنطقة منزوعة السلاح، ما يضع آلاف المدنيين أمام مشكلة كبيرة تتعلق بتبعيتهم الإدارية، والتي قد تكون للنظام السوري.
عوامل تساعد على نجاح الحكومة
ويرى نجار أن تشكيل الحكومة الجديدة التي يدور الحديث عنها كبعد مركزي لإدارة المدينة هي “فكرة إيجابية”، لكن من حيث التطبيق توجد عوامل عدة تعرقل إنجازها وتحبطها، أهمها حالة الفصائلية والفوضى التي من الصعب ضبطها بسهولة.
ويتصور المسؤول السابق في “حكومة الإنقاذ” عوامل نجاح الحكومة الجديدة، والتي يجب أن تكون على مسافة واحدة من الفصائل، التي ستدعم بدورها الإدارة الجديدة أيضًا، من خلال وجود أبعاد إدارية مع الجانب التركي.
“الدولة التركية إيجابية وتتعامل بنظام الولايات، والتي يمكن الاستفادة منها كونها محاذية للمحافظة ككلس وهاتاي وغازي عنتاب”، بحسب نجار، الذي يشير إلى كوادر ومثقفين وبنى تحتية يمكن الاستفادة منها إلى جانب البعد الإداري الإيجابي عند الأتراك، ومن الحالة الشعبية التي ستكون قيمة لإنجاز الحكومة.
وكانت تركيا بدأت بالعمل على الجانب المدني في إدلب، خاصةً أنها تحوي قرابة أربعة ملايين مدني، بعد حركات النزوح الأخيرة التي استقبلتها، آخرها من محافظتي درعا والقنيطرة.
وتمثلت الإجراءات بإحصاء مدني في إدلب، وعلمت عنب بلدي من أهالي في مدينة أريحا أن الجمعيات فيها طلبت من المدنيين بيانًا عائليًا لكل عائلة موجودة في المدينة.
وبحسب نجار، فإذا أردنا مقارنة الواقع الاقتصادي في إدلب بواقع شمالي سوريا ككل، في الباب وعفرين مثلًا، يمكن القول إنه جيد، أما من منطلق المسؤولية وحجم الكثافة السكانية والموارد فهو واقع لا يستغل بالشكل الأمثل، بل على العكس، إذ تعيش المحافظة “شبه حالة فوضى إدارية”.
معبر “باب الهوى”
يقع باب الهوى شمال إدلب على الحدود السورية التركية وتقابله من الجانب التركي مدينة الريحانية، ويعتبر بوابة سوريا الأولى تجاه تركيا وأوروبا.
خلال سنوات الثورة شهد المعبر سيطرة أكثر من طرف، نتيجة الأطماع بجمارك الموارد المالية الكبيرة، إذ يعتبر أهم مورد للجهة التي تسيطر عليه من جراء دخول الشاحنات التجارية وحركة عبور المدنيين.
“الجيش الحر” سيطر على المعبر في 19 من تموز 2012، ليكون أول معبر حدودي مع تركيا يسقط بيد فصائل المعارضة السورية، قبل أن تهاجم “الجبهة الإسلامية”، مقرات هيئة أركان “الجيش الحر” والمستودعات التابعة لها.
وفي 21 من نيسان 2015، أعلنت “حركة أحرار الشام الإسلامية” تسليمها المعبر لإدارة “مدنية”، تشرف هذه الإدارة على حركة التنقل وإدارة الهجرة والجوازات بين تركيا وسوريا، لكن البعض رأى أن الإدارة تابعة لها.
الإمساك بعصب المحافظة ورئتها إلى الخارج دفع “هيئة تحرير الشام”، تموز 2017، إلى الهجوم عليه ما أدى إلى انسحاب الحركة منه.
وأعلنت “الهيئة” أن المعبر سيسلم لإدارة مدنية، لكن البعض اعتبر أن الإدارة ستكون تابعة لها، وبالتالي العائدات المالية ستذهب إلى جيوب “تحرير الشام”.