إبراهيم العلوش
في مثل هذه الأيام وعلى مدار أسبوع قبل ست سنوات، حدثت مذبحة القصور في دير الزور، مذبحة عنيفة ألقت بجثث ضحاياها في الشوارع، أو تركت العائلات المذبوحة في الأقبية التي لجأت إليها، أو تحت الجدران التي تم صف الشباب أمامها، وهم يديرون ظهورهم، بعد أن قامت قوات الحرس الجمهوري بتصوير إهانتهم والتمتع بتعذيبهم أمام الكاميرات، وقبل أن يتلقوا رصاص الغدر الذي قتلهم. وكان مشهد عمال الفرن الاثني عشر الذين تم حرقهم أحياء في بيت النار عنوانًا مهمًا لتلك المذبحة، بالإضافة إلى رجال ونساء وأطفال ماتوا بصمت، وتنكر لموتهم نظام يدعي حماية سوريا من الإرهاب!
في صباح 25 من أيلول من عام 2012، كانت أحياء الجورة والقصور مطوقة، ودخلت فرقة الموت من الحرس الجمهوري المدججة بالأسلحة الأوتوماتيكية، ونصف الأوتوماتيكية، وحتى بالخناجر والسيوف، لقد أكد الشهود على الذبح بالخناجر والسيوف، استحضارًا لمشاهد طائفية مستلة من التاريخ، ويرعاها الشحن الطائفي الإيراني، حيث تتضمن فرقة الموت هذه 50 “مستشارًا” إيرانيًا يحملون البنادق، والخناجر، والشعارات التي لا تختلف عن شعارات داعش، ولكن قبل ولادة داعش بسنتين!
سقط حوالي ألف شهيد في تلك المذابح، معظمهم من المدنيين العزل، والذين أصروا على عدم هجرانهم لبيوتهم، رغم القصف اليومي لمدفعية وطائرات النظام لأحياء دير الزور التي كانت تتمزق يومًا بعد يوم أمام عيونهم. وكان من ضحايا تلك المذابح الكاتب إبراهيم خريط وعائلته كاملة، والكاتب محمد رشيد الرويلي الذي كان رئيسًا لاتحاد الكتاب بدير الزور لسنوات طويلة.
ناهيك عن الكثيرين من مؤيدي النظام الذين التهمتهم الهبّة الطائفية لقوات الحرس الجمهوري، ومستشاري إيران الذين يقدمون خدمات التنكيل، والتعذيب، والتفنن بانتقامات تاريخية، وطائفية، لا ذنب للمدنيين العزل بها.
من أشهر قادة قوات فرقة الموت التي قامت بتلك المذابح العقيد علي خزام، وهو مستزلم لماهر الأسد، الذي بدوره يستزلم لإيران. واشتهر حينها فيديو لعلي خزام وهو يلبس ما يشبه مريولًا أبيض، وكأنه خارج من أحد مستشفيات الأمراض العقلية، وقد غنى فيه وألقى مواعظ طائفية ودينية وهو يهتز سكرًا!
هذا الخطاب الطائفي الذي غذّته إيران وشبيحتها بشكل مبكر، لا يزال النظام يمارسه عمليًا رغم كل ادعاءاته المناقضة لهذه الموعظة، ولا يزال كثير من مثقفي النظام وشبيحته يؤمنون به علنًا أو خلف الكواليس.
شبيحة يتحدثون في الفلسفة، والنظريات العلمانية، والدينية، أو يترجمون الكتب الشهيرة، أو يلقون قصائد رقيقة، أو يقرؤون قصص حب جذابة تدل على رقة مشاعرهم، وعمق أفكارهم، في نفس الوقت الذي يؤيدون فيه القتل والتعذيب والتهجير ضد السوريين، وهم يعتنقون فعليًا أفكار علي خزام الذي يرتدي مريول مستشفى المجانين، ويلقي مواعظه على مبدأ “سمك، لبن، تمر هندي”. تلك المواعظ التي قتلت خيرة شباب سوريا، ومن مختلف الطوائف، ويقر بضحاياها علي خزام نفسه في أثناء إلقاء موعظته، ويعترف بأن مجموعته التي تقاتل معه، والتي تتألف من 50 شخصًا، لم يبق منها إلا ثلاثة فقط، وقد لحق علي خزام بمقاتليه السبعة والأربعين بعد مذابح القصور والجورة في دير الزور، فالقاتل مصيره القتل، مهما علا شأنه أو كبرت واسطته، ولو كانت هذه الواسطة السيد الرئيس (الخالد) أو أحد أبنائه!
العقيد علي خزام والذي تم ترفيعه أوتوماتيكيًا إلى عميد بعد قتله، يكذّب في موعظته الكثير من ادعاءات النظام العلمانية، ويؤرخ للنفوذ الإيراني المبكر، وتورط مستشاري إيران بالقتل والتنكيل الطائفي، الذي وثقه شهود مذابح القصور، والجورة، بدير الزور، وكان علي خزام نفسه أحد القائمين بها.
لكن أرواح المغدورين في مذابح دير الزور لن يتم نسيانها مهما تراكم فوقها من أحداث، وحصارات، ودمار، فكل حادثة يجب أن تأخذ حقها في التوثيق، والتسجيل، وكتابة حيثياتها وتجريم مرتكبيها بالاسم، من أجل ألا تعاد في المستقبل، وربما بشكل أشد قساوة، سواء في دير الزور، أو في غيرها، وضد أبناء هذه المدينة أو هذه الطائفة أو تلك!
ملاحظة: لا تزال المذابح جارية في الشوارع، وفي الأقبية، وحتى في المقابر التي لجأ اليها المدنيون خوفًا وهلعًا من المجزرة الجارية، ولم تتوقف حتى وقت كتابة هذا المقال، ولكن قبل ست سنوات، ورغم مرور الزمن، فإن صور الوجوه الشاردة في اللحظات الأخيرة قبل وصول الرصاص إليها لا تزال في قلوبنا، وهم ليسوا مجرد أرقام عابرة، إنهم جزء من الدماء التي يدفعها السوريون من أجل تحرير سوريا من هذا النظام الذي لا يزال ينتج أشكالًا مروّعة من الإرهاب.