“كنت أحاول أن أكون آخر من يخرج لأحظى بأكبر قدر من ذكريات طفولتي التي بدأت تتهافت على مخيلتي، عندما علمت بوصول الباصات الخضراء، التي ستقلّنا إلى إدلب دونما عودة”، تقول الشابة الثلاثينية لينا درويش، مضيفةً “كانت هذه الباصات بمثابة نذير شؤم لي لا يمكن أن يفارق ذاكرتي”.
تروي لينا، وهي مدرّسة رياضيات في المرحلة الإعدادية، لعنب بلدي، الدقائق الأخيرة التي قضتها في حرستا، وهي إحدى بلدات الغوطة الشرقية بريف دمشق، قبل رحلتها مع التهجير.
الباصات الخضراء، التي لا تحمل من دلالات لونها سوى الاسم، تملأ الساحات وتبدأ بالانطلاق نحو المجهول، ما إن توصل فوجًا حتى تعود لتأخذ غيره.
في مدينة اسطنبول التركية، حيث يقيم نحو 600 ألف سوري، يختلف الحال، فحافلات النقل الداخلي التي تحولت إلى رمز للتهجير في سوريا، باتت تشكل مكانًا يحتفي بالسوريين، ويهنئهم بمناسباتهم الشخصية، وهو ما حدث مع الشابة مزنة، التي تدرس في جامعة اسطنبول.
تقول مزنة لعنب بلدي، “وسط استهتار العالم بإنسانيتنا كسوريين، حظيت بلفتة لطيفة في إحدى وسائل النقل العامة في اسطنبول في أثناء توجهي صباح يوم 18 من أيلول، لحضور دورة تدريبية”، وتضيف، “عندما مررت كرت الباص على آلة قطع التذاكر قالت لي: (doğum günün kutlu olsun)، وتعني (ميلادًا سعيدًا)”.
رغم مشاعر السعادة التي غمرت مزنة، لكن الحادثة أعادت لمخيلتها مشاهد التهجير في باصات النقل الداخلي في سوريا، وفق تعبيرها.
الحلم الناقص في سوريا
لم تكن مزنة في ذلك اليوم تتوقع أن تحظى بهذا الاحتفاء في يوم عيد ميلادها، فما حدث معها دون سابق إنذار كان بمثابة حلم بالنسبة لإسراء، وهي شابة في السادسة عشرة، من إحدى بلدات الغوطة الشرقية، كانت تحلم أن تستقل باصات النقل الداخلي في طريقها للجامعة مستقبلًا، لكنها استقلتها في رحلة التهجير.
تقول إسراء، “كنت أحلم أن يكون هذا الباص مصدر سعادة لي عندما أستقله إلى الجامعة، لا أن يكون أداة تهجيري إلى منفى يحرمني من متابعة حياتي كما أريد ويبعدني عن منبت جذوري”.
وتحولت الباصات الخضراء، التي كانت يومًا جزءًا من المشهد الحضاري في سوريا، إلى سمةً لاستراتيجية “استسلم أو مت جوعًا”، في رحلة التهجير القسري التي فرضها النظام السوري وحلفاؤه من الروس والإيرانيين ضد معارضيه تحت ما يسمى “المصالحة الوطنية”.
وكانت الباصات الخضراء، صينية الصنع، دخلت إلى المدن السورية لأول مرة وسط احتفاءٍ كبير عام 2009. في ذلك الحين، رمزت تلك الباصات إلى التحديث الذي وعد به بشار الأسد، وحلت محل حافلات المدارس المعتاد استخدامها، ودعمت بوجودها الحافلات البيضاء الصغيرة المعروفة باسم “السيرفيس”، لتوفر وسيلة انتقال عامة محسنة وفي متناول الطلاب والعمال.
مزايا للمغتربين وألم للمهجرين
بالنسبة للسوريين كان مجرد وجود وسيلة نقل تقلهم إلى أعمالهم ميزة مهمة، لكن في اسطنبول، أصبحت هذه الأماني واقعًا أكبر من المتوقع.
تقول الشابة مزنة، “رغم كوننا مغتربين، لكن هذه الميزات لم تفرق بيننا وبين أي مواطن تركي آخر، جعلتنا نشعر بأننا أشخاص ذوو قيمة في مجتمع يحترم قاطنيه”.
وفي عام 2015، طورت مديرية النقل في اسطنبول هذه الميزة، بعدما كانت ترسل منذ عام 2011 رسائل نصية قصيرة تهنئ بها المواطنين في مناسباتهم، إلى تهنئة مباشرة في أثناء قطع التذكرة والركوب بالباص لحاملي “الكرت الأزرق” و”كرت الطالب”، إذ يتم إدخال البيانات الشخصية لمستخدمي هذه البطاقات في أثناء استخراجها من مكاتب مديرية النقل، ليستفيد حاملوها من التخفيضات على المواصلات.
أما في الغوطة الشرقية فكان للشابة بيان، نصيب مختلف من ميزات باصات النقل الداخلي، وعن ذلك تقول لعنب بلدي، “كل قافلة كانت تخرج أمامي جعلت قلبي ينزف ألمًا تعجز كلماتي أن تعبر عنه”.
بيان، وهي مدرّسة لغة إنكليزية، وإحدى المهجرين من مدينة حرستا، تحدثت لعنب بلدي عما تبقى في مخيلتها من الباصات الخضراء ورحلة التهجير، “كنت أرى القهر في عيون الرجال والخوف يسيطر عليّ من مستقبل مجهول بانتظاري”.
وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، خرج من الغوطة الشرقية خلال الفترة بين 9 من آذار وحتى 18 من نيسان 2018 أكثر من 55 ألفًا إلى محافظة إدلب، بناء على اتفاقيات التهجير المنظم التي تم توقيعها مع روسيا.
ولم تقتصر رحلات الباصات الخضراء إلى الشمال السوري على الغوطة الشرقية، بل طالت مدنًا وبلدات سورية أخرى منذ مطلع عام 2014، ليتم نقل كل من يعارض النظام السوري إلى محافظة إدلب وسط صمت عالمي وقلق وتنديد من الأمم المتحدة.
أعدت هذه المادة في إطار برنامج “مارس” التدريبي في مؤسسة عنب بلدي