تعا تفرج
الانتخابات والدَبّيك راعي الأول
خطيب بدلة
كنت أظنُّ، خلال السنوات السبع الماضيات، أن نظام الأسد قد أعاد النظر بفكرة “الانتخابات” التي كان يُجريها بين الحين والآخر، ثم تَخَلَّى عنها نكايةً بالاستعمار والإمبريالية والصهيونية والمعارضة التكفيرية.. والدليلُ أنه مَرَّرَ انتخابات مجلس التصفيق والدبكة لعام 2016 بقوائم مغلقة ضَمَّتْ شخصيات انتقتها الأجهزةُ الأمنية بعناية فائقة، لأن هذه المرحلة العصيبة من حياة أمتنا لا تحتملُ وجودَ أناس تنقصُ لديهم نسبة الولاء عن الـ 100%.
ولكن هذا النظام خيب ظني، وأعادني، كما يقول البرلماني خالد العبود، إلى المربع الأول.. فبحسب خبر نشرته “عنب بلدي”، فَتَحَتْ مراكزُ الاقتراع السورية أبوابَها يوم الأحد، 16 من أيلول 2018، لإجراء انتخابات المجالس الإدارة المحلية، بدءًا من السابعة صباحًا، ما يعني أن المواطن السوري يستيقظ، يعرك عينيه، ويركض إلى أقرب مركز انتخابي، ويدلي بصوته، كما لو أنه مواطن سويسري محترم.
يعيدنا هذا الخبرُ، نحن السوريين الذين تجاوزت أعمارُنا الستين، إلى تلك الأيام الجميلة، حيثُ كانت الانتخابات عرسًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، إذ بمجرد ما يُغْلَقُ بابُ الترشيح لعضوية مجلس الشعب، أو المجالس المحلية، تبدأ البيكآبات الزراعية التي يمتلكها المرشحون الأشاوسُ بنقل الزيت والزيتون والجبن والسمن والقريشة إلى دمشق، قلب العروبة النابض، وتُعْطى لسائقي الرفاق أعضاء القيادتين القومية والقطرية، وضباط المخابرات، وسماسرة الانتخابات الذين يُطعمون تسعًا ليأكلوا العاشرة.. والسائقون بدورهم يوصلونها إلى بيوت معلميهم، ولدى اللقاء بين المرشح والمسؤول “المعلم” تبدأ عملية “دحش” المغلفات المليئة بالمال في الجيوب، ثم “يقعد الطرفان على البازار”، ويتفقان على أن “يدحش” المسؤولُ اسمَ هذا المرشح في قائمة الجبهة الوطنية التقدمية (التي صار اسمها الآن: قائمة الوحدة الوطنية).
ويعود المرشح، بعد أن يتدبر أمره مع مسؤولي العاصمة، إلى محافظته ممتلئًا بالأمل، وقبل يومين من موعد الانتخابات، يتجمع المرشحون أمام مبنى فرع الحزب، وما إن تصل البرقية التي تتضمن أسماء المرشحين في قائمة الجبهة حتى تبدأ الهيصة والزنبريطة، وقرع الطبول، وترغلة المزامير، وزغاريد النساء، وإطلاق الرصاص في الهواء، وذبح الخواريف، وإعلاء القدور على النار، ثم يكون الزلع والبلع والتمليص مثل حرب اليابان، وتُمضي الجماهير الكادحة يومين جميلين عامرين بالدسم والحلوى والفواكه والقهوة المرة، وبعدها تجري الانتخابات ببرود يصل إلى حدود التثاؤب، لأن أسماء الناجحين عُرِفَتْ، وأصبح الفلم بلا زلم -كما يقول أهل حلب- والشاشة بلا قماشة.
وحينما تذهب السَّكرة وتأتي الفَكرة، كما يقول المثل، يذهب المرشح الذي شحنَ اللحم والشحم والسمن والشعيبيات إلى دمشق، و”دحش” المال في الجيوب إلى داعمه، معاتبًا إياه، متسائلًا عن سبب عدم “دحش اسمه” في القائمة، فيحلف له بالشرف الحزبي، والشرف العسكري، والشرف المخابراتي أنه وضع اسمه في صدر القائمة، ولكن رفاقًا آخرين، في آخر لحظة، شالوه، وعلى كل حال “خيرها بغيرها”، وفي المرة المقبلة سيُقْرَعُ طَبْلُك قبل كل الطبول، وسأذهب أنا، بجلالة قدري، إلى مضافتك، لأشرب قهوتك، وأُمَلّص من لحم خواريفك، وأدْبُك مع دَبّيكتك، شرط أن تجعلني أقف في رأس الدبكة، فأنا، كما تعلم، راعي الأول!
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :