حلا الإبراهيم | مراد عبد الجليل | رهام الأسعد
بالتزامن مع انحسار العمليات العسكرية وتوقف المعارك في أغلب المدن السورية، عاد ملف إعادة الإعمار في سوريا إلى السطح خلال الأشهر الماضية، وسط محاولة روسيّة حثيثة لإطلاق العملية، ودعوات تكررها موسكو على مسامع المجتمع الدولي للمشاركة في إعادة الإعمار ترسيخًا لسيطرتها على سوريا.
روسيا والنظام السوري عملا خلال الآونة الأخيرة على تشكيل صورة مناسبة عن الوضع في سوريا، يفسح مجالًا للحديث عن عملية إعادة الإعمار في المحافل الدولية، إذ لا يكاد لقاءٌ سياسي أو اجتماع دولي حول سوريا يخلو من الحديث عن انحسار المعارك واستعداد النظام للبدء في إعادة الإعمار، وذلك بهدف إشغال المجتمع الدولي بـ “منجم ذهب” سيوفره للشركات المشاركة، عن العملية السياسية التي قد تؤدي إلى حل يقضي على رئيس النظام السوري، بشار الأسد، حليف روسيا.
ويكرر الطرفان مطالبهما برفع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا منذ بداية الاحتجاجات في 2011، بحجة عودة الحياة الطبيعية وسيادة “المصالحات الوطنية”، لكن هذه المطالب تصطدم برفض أوروبي متكرر عبر تصريحات مسؤولين حول عدم المشاركة ودفع فاتورة الإعمار إلا بعد توافق سياسي بين جميع الأطراف تحت رعاية الأمم المتحدة.
صحيفة “كوميرسانت” الروسية نشرت نسخة عن وثيقة وصفتها بالـ “سرية” صيغت في الأمم المتحدة، في 2 من أيلول الحالي، جاء فيها أن “المنظمة الدولية ستبدأ بالعمل على دعم إعادة الإعمار في سوريا”، فقط بعد “انتقال سياسي حقيقي للسلطة”، الأمر الذي اعتبرته وسائل إعلام روسية مؤشرًا على عدم توفر نية لدى أوروبا بشأن الشروع في العملية، وإصرارها على رحيل الأسد.
ثلاثة أبواب لدخول شركات إعادة الإعمار
يحيط ملف الإعمار غموض كبير من حيث التكلفة، التي اختلفت قيمتها بين التقديرات الروسية والسورية والأممية، إذ قدر بشار الأسد في نيسان الماضي تكاليف إعادة إعمار البنية التحتية في سوريا بـ 400 مليار دولار على الأقل، في حين قدرها رئيس غرفة التجارة والصناعة الروسية، سيرغي كاتيرين، في شباط الماضي، بين 200 و500 مليار دولار بحسب أنواع الشركات التي ستشارك، وآلية دخولها إلى السوق السوري وتحايلها على العقوبات.
وستدخل الشركات الأجنبية من خلال ثلاثة أبواب حددها المحلل الاقتصادي، يونس الكريم، بشركات وسيطة مقامة في دول مجاورة، أو شركات سورية تشتريها أخرى أجنبية، أو شركات تحمل صفة دولية.
طرق النفاذ إلى سوريا
الكريم أشار في لقاء مع عنب بلدي إلى أن الباب الأول للشركات الأجنبية سيكون عن طريق شركات وسيطة في الإمارات العربية المتحدة والدول المجاورة لسوريا، وستقوم الشركات الوسيطة باتفاق مع رجال أعمال تابعين ومتعاقدين مع النظام، لا عقوبات اقتصادية عليهم، لتوقيع عقود الاستثمار.
وذلك يعني تحالف شركات للهروب من إشكاليات قضائية وعقوبات اقتصادية وهذا يطلق عليه “غسيل العقوبات الاقتصادية” بحسب الكريم، الذي أكد أن الأسد سيلجأ إلى هذه الطريقة في حال عدم رفع العقوبات الأوروبية عن نظامه.
أما الباب الثاني فسيكون عن طريق شراء شركات أجنبية لشركات سورية مرخصة في الداخل للانطلاق من خلالها في السوق السوري.
وعملت حكومة النظام خلال العامين الأخيرين على تأسيس شركات بلغ عددها، بحسب بيانات لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك نقلتها صحيفة “الوطن” المقربة من النظام في 19 من أيلول الحالي، أكثر من 85 ألف شركة، موزعة بين شركات مساهمة مغفلة ومحدودة المسؤولية وقطاع مشترك وقطاع عام.
هذه الشركات التي وصفها الكريم بـ “الوهمية”، ستعمل على بيع تراخيصها لشركات أجنبية، إضافة إلى توقيعها شراكة مع شركات الدول المجاورة، وخاصة الأردن ولبنان، اللذين يعتبران بوابات للدخول في عملية “غسيل العقوبات الاقتصادية”.
في حين سيكون الباب الثالث من خلال دخول الشركات بصفتها الدولية، وهو احتمال ضعيف كون القانون السوري لا يسمح للشركات الأجنبية بالاستثمار في بعض القطاعات التي يعتبرها سيادية، إضافة إلى التكاليف الضخمة لترسيم الشركات وتوثيقها، وبالتالي يصبح الأمر غير مجدٍ استثماريًا، خاصة من ناحية العمالة وعمليات دخول وخروج الأموال وآلية الدفع.
تحايل على القانون في المشاريع السيادية
سيكون عمل هذه الشركات مرتبطًا بنوع المشاريع المراد تنفيذها، بحسب الكريم، فمشاريع البنية التحتية والقطاعات الحيوية في الدولة، والتي تعتبر “سيادية”، تحتاج إلى أموال ضخمة لا قدرة للدولة السورية بوضعها الحالي على إعمارها، ولا رغبة لدى النخب الاقتصادية للنظام بالاستثمار فيها كونها ذات مردودية طويلة الأجل، الأمر الذي سيتطلب دخول شركات عالمية ودولية عبر وسطاء تابعين لشركات الأسد ورجال أعماله.
ويحظر القانون السوري خصخصة القطاعات الحيوية (كهرباء، ماء، اتصالات، مصارف)، لكن النظام قد يلجأ إلى التحايل على القانون عن طريق طرح أسهم المؤسسة للاكتتاب (بقيمة 51%)، بحجة عدم امتلاك القدرة على تنفيذ مشاريعها، ما يؤدي إلى دخول شركات أجنبية في القطاعات الحيوية، وتحولها من قطاعات داعمة للمواطن إلى قطاعات ربحية.
أما مشاريع إعمار المدن والأبنية السكنية فستكون من حصة شركات النظام السوري وتحت سيطرته بالمشاركة مع الشركات الأجنبية التي ستمول العملية مقابل فوائد تدفع لها، وفق الكريم.
المشاريع الترفيهية (النوادي، المسابح، الملاهي) ستكون أيضًا من حصة شركات تابعة للنظام، ستبنيها بمعايير دولية، على أن يتم إعطاء الإدارة لشركات أجنبية مقابل الدخول بجزء من الإدارة من قبل النظام.
عقود رضائية مع النظام
عقود الاستثمار لهذه الشركات ستكون أغلبها رضائية مع النظام، الذي سيعمل بدوره على طرح العقود للمزايدات والمناقصات لإظهار نوع من التنافس وإظهار الشفافية، لكن في حال وجود منافس قوي ومهم بالنسبة للنظام سيتم التعاقد معه بعقد رضائي على غرار ما حصل مع توقيع عقود المطاحن مع إيران قبل سحبها وإعطائها لروسيا، بحسب ما قال المحلل الاقتصادي يونس الكريم.
أما أهداف هذه الشركات فستكون الربح من إعادة الإعمار وتوليد أكبر سيولة ممكنة وتشغيل الأموال ثم الاستثمار المولد للربح، وهو الهدف الجوهري للشركات بالنظام الرأسمالي الذي يتولد عبر خلق حاجات المواطن وإشباعه على مراحل، بحيث تتولد لديه دائمًا حاجات أخرى غير الحاجات السابقة، ما يؤدي إلى استمرارية الربح.
انتهاكات ترتكبها شركات إعادة الإعمار في سوريا
مع تطور القانون الدولي مراعاةً للتزايد المستمر في الأنشطة التجارية، أصبح من الضروري الاستفادة من نصوصه فيما يخص الوضع في سوريا، ويزيد من إلحاح ذلك تراجع الوضع الاقتصادي خلال سنوات الحرب في سوريا، فضلًا عن الانتهاكات الجسيمة التي وقعت على الأرض السورية خلال هذه السنوات ولا تزال تقع.
إن التزام الشركات التي دخلت سوريا في الفترة الماضية وستدخل السوق السورية مستقبلًا، بقواعد قانون العقوبات الخاص بسوريا أمر ضروري، لكن بعض ممارسات هذه الشركات قد تكون مشروعة وغير مجرّمة في قانون العقوبات السوري، بالوقت الذي تشكل فيه انتهاكًا بموجب القانون الدولي الإنساني.
فرغم فرض عقوبات اقتصادية على بعض الشركات ورجال الأعمال السوريين، يستطيع بعضهم أن يتملصوا من هذه العقوبات، عن طريق إنشاء شركات في الواجهة أو ترؤس شركات تضع في واجهتها رجالًا أكثر سرية لإخفاء هذه العلاقة بين رجل الأعمال المعاقب اقتصاديًا وهذه الشركة.
جرم بالإسهام
لا يستطيع القانون الدولي تجريم أو اتهام الشركات بشكل مباشر بارتكاب الانتهاكات، لكنه يمكن تحميل هذه الشركات المسؤولية عن انتهاك قوانين محلية لحقوق الإنسان متعلقة بدولهم أو بالدول التي يعملون فيها.
بحسب نظام “روما” الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية والأنظمة الأخرى، فإن “الشخص يمكن أن يكون مسؤولًا عن ارتكاب أو تخطيط أو الأمر أو الشروع في الجريمة أو تقديم العون، أو التحريض على ارتكابها، ويمكن أن يشمل هذ تقديم العون المعنوي أو التشجيع عن سابق علم ومعرفة”.
تتحمل الشركات التي تعمل ضمن نزاع مسلح في دولة ما مسؤولية بموجب القانون الدولي الإنساني، وهو القانون الناظم للنزاعات المسلحة، والذي يفرض الواجبات وأشكال الحماية الإنسانية التي يستحقها الأفراد خلال النزاع المسلح.
كانت سوريا خلال سنوات الحرب مسرحًا لارتكاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وكان النظام السوري الفاعل الرئيس في معظم تلك الانتهاكات، سواء في القصف أو التهجير القسري، أو الاعتقال، بالإضافة إلى سلب ملكيات المدنيين.
هذه الانتهاكات كان لبعض الشركات الأجنبية ضلوع فيها، وإن لم ترتكب هذه الانتهاكات بشكل مباشر، أما بعضها الآخر والتي تفكر بدخول السوق السورية لإعادة الإعمار فيمكن أن ينطوي على ارتكاب انتهاك للقانون الدولي، ما يعرضها للمحاسبة أو للضغط المجتمعي، وبالتالي يؤثر على سمعة هذه الشركات في العالم، على أقل تقدير.
دفن حق الملكية تحت “الإعمار”
من أهم الانتهاكات التي من الممكن أن ترتكبها شركات البناء التي ستدخل سوريا، هي الاستيلاء على أملاك المدنيين، سواء المقيمون داخل سوريا أو خارجها، وذلك تطبيقًا للمرسوم رقم 66، المتعلق بتنظيم منطقة بساتين الرازي والمزة وكفرسوسة.
وقد يسهم القانون “رقم 10″، الذي أثار مخاوف الكثيرين خصوصًا الذين يقيمون خارج سوريا، بإفساح المجال للشركات للتورط بانتهاك حق مهم ومُصان دوليًا من حقوق الإنسان، وهو حق الملكية، لأنه أعطى مهلة شهر لإثبات ملكية الأهالي لعقاراتهم تحت طائلة فقدانها.
ويدخل ضمن أعمال إعادة الإعمار التي تشكل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان، البناء فوق أراض من دون التأكد من وجود مخلفات حرب، أو مقابر جماعية.
ويرى محمد العبدالله، المدير التنفيذي لمركز “العدالة والمساءلة السورية”، أن عملية البناء فوق أراض أو عقارات تم استملاكها عنوة دون دفع تعويضات للأهالي، هي قضية يمكن استهداف الشركات المنفذة فيها ضمن محاكم دول هذه الشركات.
كما تعتبر الرشاوى التي تدفعها شركات للمساعدة أو التحريض على ارتكاب الجرائم أو تعزيز جريمة ارتكبت سابقًا عن طريق إعادة الإعمار، انتهاكًا للقانون الدولي.
كذلك توفير البضائع أو الخدمات أو المعلومات أو الأمور اللوجستية أو الدعم المالي، للجناة الرئيسيين، كما حصل في مجازر الكيماوي، وتأمين وسائل النقل لتهجير السكان في حمص والغوطة الشرقية، وداريا، والعديد من المناطق التي تم تهجير أهلها قسريًا.
وسواء كان الفساد مرتبطًا بجريمة دولية أم لا فإنه بحد ذاته ينتهك حقًا من حقوق الإنسان، كما في حالة “الحصار”، وحرمان المدنيين من الغذاء والدواء، فالشركات التي تتعامل مع النظام السوري الذي يفرض حصارًا على المدنيين، تعتبر شريكة له في هذا الانتهاك.
ويمكن أن تتحمل الشركات التي تشارك في صفقات تجارية ذات صلة بإعادة الإعمار مع النظام السوري مسؤولية المساعدة والتحريض لتمويل الجرائم، حتى إذا كانت لا تدري كيف يتم استخدام الأرباح المالية التي يزودونها بها، فيكفي إثبات أن مجرد وجود هذه الأموال يسمح للجاني بدفع أموال أخرى، لأغراض استخدامها لأمور مضرة أو انتهاكات.
فالشركات تتحمل مسؤولية الاشتراك في ارتكاب الانتهاكات إذا اشترت بضائع بشكل متكرر، أو دوري، من مورد مشارك في جرائم حرب، وانتهاكات لحقوق الإنسان في سوريا، ويفترض بالشركة أن تعرف الشخص الذي تتعامل وتتعاقد معه، وفيما إذا كان متورطًا في ارتكاب هذه الانتهاكات، لأن عدم العلم لا ينجيها من المساءلة.
رغم جميع الأدلة على إمكانية إسهام شركات إعادة الإعمار في تغطية جرائم حرب ارتكبت في سوريا، لكن الكثير من السوريين لا يملكون الوعي الكامل بذلك، وهو ما اتضح من خلال استطلاع رأي أجرته عنب بلدي، سألت فيه متابعيها وقراءها.
وطرحت عنب بلدي عبر موقعها الإلكتروني السؤال التالي “هل تغطي مشاريع إعادة الإعمار على الجرائم في سوريا؟”
69٪ من المشاركين في الاستطلاع، والذين وصل عددهم إلى 500 مشارك، أجابوا بـ “لا”، أما الذين أجابوا بنعم فكانت نسبتهم 31٪ فقط.
منصات لمراقبة ومحاسبة الشركات التي تدخل في إعادة الإعمار
أسس “البرنامج السوري للتطوير القانوني” وحدة “حقوق الإنسان والأعمال التجارية”، بهدف مراقبة الشركات الداخلة في عملية إعادة الإعمار ومراقبة أموال لها، وتوثيق انتهاكات الأجهزة المالية سواء بنوك أو شركات بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني السوري.
ويشير مدير “البرنامج السوري للتطوير القانوني”، إبراهيم العلبي، إلى أن البرنامج يسعى لتوعية هذه المنظمات بالقوانين الدولية التي تضبط مراحل إعادة الإعمار، “رغم خضوع القانون الدولي في كثير من الأحيان لاعتبارات سياسية، لكنه أداة متاحة لضبط هذه الممارسات والانتهاكات”.
وعن الدافع لإنشاء هذه الوحدة، يقول العلبي لعنب بلدي، “نحن في البرنامج السوري للتطوير القانوني لاحظنا تغير السردية السورية حول موضوع إعادة الإعمار، فهناك إشكاليات تحصل على الأرض، تتعلق بحقوق الإنسان والتعامل معها قانونيًا”.
ويضيف العلبي أن مقولة “الحرب انتهت ويجب أن تبدأ إعادة الإعمار”، وفرت مدخلًا لنسيان دماء الضحايا وغض الطرف عن محاكمة المجرمين، “لذلك أصبحت مراقبة الشركات ومراقبة أموال إعادة الإعمار، والاجتماع مع الشركات والدول لهذا الغرض، ضرورة”.
وتتحمل منظمات المجتمع المدني بمختلف اتجاهاتها، مسؤولية بلوغ المنصات الدولية، ليس فقط لتوثيق هذه الانتهاكات، وإنما أيضًا لمحاسبة هذه الشركات على الانتهاكات المرتكبة ومطالبتها بالتعويض.
المحاكم الدولية والمحلية
يمكن مساءلة الشركات أمام المحاكم الدولية أو في المحاكم المحلية، وذلك في الدول التي تتبع لها جنسية تلك الشركات، أو دول أخرى عبر مبدأ “الولاية القضائية العالمية” الذي يشير إلى أن كل دولة لديها مصلحة في مساءلة شركة في حال ارتكابها انتهاكات لحقوق الإنسان.
وهذا يعني أن أي محكمة محلية يمكن أن تحمل شركة ما ارتكبت انتهاكات وجرائم دولية المسؤولية، حتى إذا ارتكبت تلك الانتهاكات خارج أراضيها، أو كان المدعي والمدعى عليه ليسا من رعاياها.
هذا فيما يتعلق بالدعاوى الجنائية التي تتضمن المطالبة بمحاسبة مدراء شركات ارتكبت جرائم حرب، ولأن هذه المحاكم تتطلب أدلة وشهودًا وأحيانًا تكون مدة التقاضي فيها طويلة، رأت بعض منظمات المجتمع المدني السوري بالتعاون مع وحدة حقوق الإنسان والأعمال التجارية، إمكانية الادعاء ضد هذه الشركات التي يثبت ارتكابها لجرائم حرب وانتهاكات إنسانية عن طريق “لجنة الاتصال”.
آلية عمل لجنة الاتصال
يكون الادعاء أمام “لجنة الاتصال” وهي صلة الوصل بين الشاكي والقضاء المدني في دولة ما، بحسب مبدأ الولاية العالمية، وذلك عن طريق “شكوى” وليس “ادعاء”، والفرق بين الشكوى والادعاء، أن الشكوى لا تحرك ادعاءً عامًا ضد المدعى عليه، لكنها تدفع الجهات المختصة للتحقيق في الواقعة التي تم تقديم الشكوى بشأنها.
وفي حال ثبوت صحة الشكوى يتم تحريك دعوى التعويض ضد الشركة المرتكبة للانتهاك، أو منع الشركة التي يشكل دخولها بإعادة الإعمار في سوريا انتهاكًا من الدخول إلى هذا السوق.
وتكون الشكوى مبنية على مخالفة، إما للمبادئ التوجيهية التي وضعتها “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية”، أو للمبادئ التوجيهية للأمم المتحدة، حول آلية عمل هذه الشركات.
قد تسهم في إعادة الإعمار
شركات عربية وعالمية متورطة بانتهاكات في سوريا
انتهاكات عدة أفرزتها الحرب السورية كشفت عن تورط دول وشركات عالمية في تجاوزات قانونية وإنسانية بحق الشعب السوري، وإن كان بعضها قد وقع دون عمد أو سابق علم من الشركة نفسها بأن أعمالها في سوريا قد تم توجيهها في أُطر غير قانونية.
وفي هذا الإطار، يتخوف البعض من أن يكون لتلك الشركات دور مستقبلي في إعادة إعمار سوريا، في حال دخلت البلد مرحلة جدية من إعادة الإعمار، ما قد يتيح الفرصة أمامها لطمس معالم الانتهاكات التي ارتكبتها هي أو غيرها على الأراضي السورية.
وفيما يلي اتهامات قضائية وحقوقية واجهتها شركات عربية وعالمية بانتهاك القانون الدولي الإنساني في سوريا، أو تمويل العمليات “الإرهابية” هناك.
“لافارج” في مواجهة تهم “دعم الإرهاب”
تخضع شركة الإسمنت الفرنسية- السويسرية “لافارج” لتحقيق رسمي في فرنسا بشأن تهم متعلقة بتمويل أنشطة إرهابية في سوريا، أفضت إلى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
القضاء الفرنسي وجه تلك التهم للشركة، في أيار الماضي، مشيرًا إلى أنها أبرمت عبر وسطاء، اتفاقات مع جماعات متطرفة، بينها تنظيم “الدولة الإسلامية”، لضمان استمرار عمل مصنعها في منطقة جلابيا شمالي سوريا، على مدى عامي 2013 و2014.
وتعترف “لافارج” بتورط فرعها في سوريا بـ “دعم الإرهاب”، إذ قالت في بيان أصدرته في نيسان 2017 إن “التحقيق الداخلي أثبت دفع أموال بالفعل، وهو ما يتعارض مع سياساتها، وإن عددًا من الإجراءات التي اتخذت لمواصلة العمليات الآمنة في المصنع غير مقبولة، وهناك أخطاء بالغة في القرارات انتهكت قواعد السلوك المعمول بها”.
لكن السلطات الفرنسية لا تزال تحقق في إمكانية تورط الشركة الأم بدعم الجماعات المسلحة داخل سوريا، وتعريضها موظفي فرع سوريا للخطر.
ويقدر القضاء الفرنسي أن الشركة دفعت ما يقارب 13 مليون يورو لجماعات مسلحة، للحفاظ على عملها في الفترة بين عامي 2011 و2015.
ويواجه رجل الأعمال السوري فراس طلاس تهمًا بـ “المسؤولية عن إيصال الأموال من الشركة إلى التنظيمات المسلحة بعد أن انشق عن النظام وأقام في دبي”، كونه يملك أسهمًا في الفرع السوري لـ “لافارج”، حين كان مقربًا من النظام آنذاك.
ثلاث شركات بلجيكية متورطة بملف الكيماوي
وجه القضاء البلجيكي، في نيسان الماضي، اتهامات لثلاث شركات بلجيكية بتصدير مواد كيماوية إلى سوريا يمكن استخدامها في إنتاج غاز الأعصاب والسارين، وذلك بموجب دعوى رفعتها منظمات حقوقية في البلاد، وبينها منظمة “سيريان أركايف”، ما استدعى مثولها أمام القضاء.
وفق الدعوى المرفوعة، فإن الشركات صدّرت 96 طنًا من مادة “أيزوبروبانول” إلى سوريا، بين عامي 2014 و2016، لكن محامي الدفاع برر بأن هذه المادة تستخدم أيضًا في صناعات “مشروعة”، مثل مزيل الطلاء.
وأضاف أن الشركات الثلاث العاملة في قطاع الكيمياء والنقل، وبينها شركة “دانمار” اللوجستية، ترسل المواد الكيماوية إلى شركات سورية تصنع الطلاء والدهان، وكانت تتعامل معها منذ أكثر من عشر سنوات.
وعن العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على النظام السوري، قالت الشركات إنها لم تكن تعلم بعقوبات عام 2013، والتي جعلت تصاريح التصدير “إلزامية”، مشيرةً إلى أن الجمارك البلجيكية كانت على علم بالشحنات.
لكن وزارة المالية البلجيكية قالت في إفادة لوكالة “فرانس برس” إن الشركات “زورت التصاريح الجمركية وتلاعبت باسم الجهة التي ستوجه لها الشحنات.
شحنة مواد كيماوية سويسرية إلى النظام
في تحقيق للتلفزيون السويسري الحكومي (RTS)، ثم إثبات تصدير خمسة أطنان من مادة “الأيزوبروبانول” المستخدمة في الصناعات الكيماوية ومنها غاز “السارين” السام إلى سوريا، في عام 2014.
وبحسب التقرير، الذي بثه التلفزيون في 25 من نيسان الماضي، فإنه بعد ستة أشهر من تدمير منظمة حظر الأسلحة الكيماوية 120 طنًا متريًا من مادة “الأيزوبروبانول” صُدّرت هذه المادة إلى سوريا دون اعتراض من الحكومة السويسرية على ذلك.
لكن وزارة الشؤون الاقتصادية في الحكومة السويسرية قالت إن شركة سورية خاصة هي التي استوردت هذه المواد، مشيرة إلى أن الوزارة لا تملك أي دلالات على ارتباط تلك الشركة بالنظام السوري.
وتشير تقارير أممية وإحصائيات تجارية للأمم المتحدة إلى أن سويسرا وبلجيكا هما الدولتان الأوروبيتان الوحيدتان اللتان صدرتا هذه المادة إلى سوريا، كما يأتي في قائمة المصدرين كل من لبنان والإمارات العربية المتحدة وكوريا الجنوبية.
اسم شركة كلور أردنية على صاروخ للنظام
نشر المعهد السوري للعدالة صورًا تظهر اسم شركة “الباحة” الأردنية (BCC) المختصة بتصنيع الكلور والصودا، مطبوعًا على صواريخ قصف بها النظام السوري مدينة حلب، في تشرين الثاني 2016، وسط اتهامات حقوقية للشركة بتوريد غاز الكلور والمواد الكيميائية إلى النظام السوري، والذي يستخدمها بدوره في القصف.
عنب بلدي تواصلت حينها مع الشركة التي أكدت أنها تصنّع المواد الكيماوية المستعملة في تعقيم المياه فقط، ولا علاقة لها بأي شكل من الأشكال بالصواريخ والأسلحة، وأضافت أنها أوقفت توريد هذه المواد إلى سوريا بعد الثورة في 2011.
وبحسب مسؤولين في الشركة، فإن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) تتولى عملية توريد المواد الكيماوية التي تنتجها الشركة إلى سوريا بغرض تعقيم المياه.
وتعتبر شركة “الباحة” من أكبر الشركات في منطقة الشرق الأوسط في إنتاج مادة الكلور المستعملة في معالجة المياه، بالإضافة إلى المواد الكيماوية الأخرى.
وتنتج الشركة الصودا الكاوية والصودا القشرية والصودا السائلة وغاز الكلور المسال وحامض الهايدوكلوريك وهايبوكلورايت الصوديوم، وتؤمّن احتياجات الأردن والبلدان المجاورة من المواد الكيماوية الأساسية، التي تخدم مشاريع تنقية المياه والمنظفات والزيوت وغيرها.
وسبق أن اتهم ناشطون سوريون شركات عربية مصنعة للمواد الكيماوية والذخائر بالتواطؤ مع نظام الأسد، وبينها شركة “شبرا” المصرية التي طبع اسمها على علب ذخائر في حلب.