بوح ونداء.. 11 – معتقلونا أرقام وليسوا “أحرارًا خلف القضبان”

  • 2018/09/23
  • 12:16 ص
منصور العمري

منصور العمري

سلسلة يكتبها منصور العمري

فور خروجي من المعتقل بدأت العمل في حملة أحرار خلف القضبان، ولم أدرك إلا بعد سنين أن معتقلينا ليسوا أحرارًا خلف القضبان، بل هم سجناء، يُذلون كل يوم وعذابهم لا يتوقف، وأنهم أذلاء بلا كرامة أو عزة إنسانية، وأننا نعمل من أجلنا لا من أجلهم.

وجدنا في هذا العمل مأوى من عتابات المعتقلين ومناشداتهم اليومية، وملجأ من عذاب الضمير ووعودنا لهم بمساعدتهم.

منذ انعتاقي من جحيم الأسد قبل أكثر من خمسة أعوام، حتى اليوم، لم يفرج عن معتقل واحد، ورغم جميع تقارير التعذيب والتنكيل وأخبار الموتى، وملايين الكلمات المصفوفة في الإعلام وفي مؤتمرات الدول الديمقراطية، وجلسات الأمم المتحدة، لم ننقذ معتقلًا واحدًا.

لم تتلبد سماؤنا بأرواح ضحايا التعذيب وآلام المعتقلين، ولا بآهات الأمهات والزوجات، والآباء والإخوة والأخوات..

هل نخدع أنفسنا؟ أنطالب بمحاسبة المجرم وتخليد الذكرى غدًا، وننسى العمل على تحرير الأحياء الموتى اليوم..

لم نحمل كفنًا، لم ندفن جسدًا، لم نزرع وردة بتراب في قبر ضم بقايا واحد من المعتقلين.

في أحسن أحوال عدالة هذا العالم، سنتذكر بعد سنين أنا كنا أحياء وتركنا أحبتنا قتلى. في رواندا وتشيلي والأرجنتين ولبنان والجزائر والبوسنة لنا عبرة، إن لم نتعلم من التاريخ، وتجارب من سبقنا. إلى متى سنظل نبكي وننوح ونترجى ونتوسل ونركع كي يسمعنا العالم، دون أن يُفرج عن معتقل واحد، ونكرر طرق عملنا ذاتها دون الوصول إلى نتيجة؟

طال انتظار من بقي حيًا… وفقد أيوب صبره. وأنتم تقرؤون هذه الكلمات مات معتقل، قد يكون ولدك.. زوجك.. أخاك.. صديقك.. أو المعتقل الذي لا نعرفه، واستمر آخر في هذا الجحيم منتظرًا كالمسيح قيامه، أو ربما سيرسل لنا اسمه فيما بعد لنقرأه في دوائر النفوس المدني، ليقول لنا لقد أسمعت لو ناديت حيًا..

معتقلونا ليسوا أبطالًا، بل أصابهم الضعف في مقتل.

معتقلونا قذرون، يقطر منهم الدم والقيح ويغطي أجسادهم الجرب والبق، وجروح الروح، ويرتعدون عند سماع صوت أقدام السجان على الأدراج.

يتقافزون فوق بعضهم ليحموا ما تبقى من جلودهم من لسعات الكهرباء ومطارق الحديد والخشب والبلاستيك وأحذية الجلادين العسكرية.

معتقلونا كفروا بكل شيء حتى بالحياة. هل نعرف كم معتقلًا استسلم لملاك الموت، مبتسمًا، وروحه تفيض من جسده فرحًا؟

بعد اعتقال أحبائنا أو سماع خبر وفاتهم، نمر بعدة مراحل في تلقي صدمة هذا الخبر: الإنكار ثم الغضب ثم الاكتئاب وفي النهاية تقبل الخبر، وهو ما يريحنا ويدفعنا لإكمال حياتنا دون القيام بفعل للتصدي لهذا الخبر أو محاولة التغلب عليه، أي دون أن نتحرك من أجلهم.

ترديد أن المعتقلين ليسوا أرقامًا، لن ينتشلهم من الإحصائيات، ولكن يخفف من شعورنا بالتقصير. صراخنا أن معتقلينا أحرار، لن يقدم لهم مثقال ذرة من حرية، ولكن يخفف علينا عذابات الضمير.

في النهاية يبدو أننا نعمل على إطلاق سراحنا من ضميرنا وإحساسنا بالذنب، ليس من أجل تحرير المعتقلين حقيقة.

يا أمّ المعتقل.. ابنك ليس على ما يرام، ولدك حي ولكن يموت كل يوم ألف مرة، ولدك يأكل فُتاتًا قذرة لا تسد رمقه، ولدك هزل جسده حتى برزت عظامه تحت جلده، ولدك يطلب رضاكِ كل يوم ألف مرة، ولدك الذي طالما تمنيته عريسًا يطلب منك اليوم أن تزفيه إلى عروسه.. لا يريد أن ينتهي ذكره من على هذه الأرض، ربما.

يا أبا المعتقل، فلذة كبدك تقطر دمًا.. من أردت أن ترى فيه شبابك أصبح جسده هرمًا أكثر منك، وغزا الشيب شعره قبلك..

يا أخا المعتقل، مع كل ضربة توجه من السجان لأخيك يقول آخ.. في كل مرة يقلب جسده على إسمنت الزنزانة يقول آخ..

يا أخت المعتقل، التي لجأ إليك مرات قليلة ولبيته كل مرة، يطلب منك اليوم أن تنقذيه..

يا ابنة المعتقل، أول رجل في حياتك اختفى.. لن يكفيك حب رجال الأرض من بعده.. لن تشعري بالأمان مع رجل آخر ثانية..

يا صديق المعتقل، يا من اخترت الوجه الآخر للحب، بلا مصالح أو قربى، لا تترك سموّ عهدك..

أيها الصحفي السوري، إن لم تكن من الذين سبق ذكرهم.. قد تستطيع تناول المعتقلين كل أسبوع أو شهر مرة في عملك، فهو موضوع يمس ملايين السوريين، وأنت منبرهم، ولسان حالهم، ونافذتهم إلى النور.

يا من يعمل من أجل المعتقلين، لا تصنع صفحة فيسبوك وتجمع معلومات عن المعتقلين بشكل عشوائي دون توثيق منهجي وتواصل مع منظمات التوثيق المعروفة، قاطعوا معلوماتكم وتبادلوها، فهي أرواح وليست أرقامًا حصرية.

أيها المتظاهرون في أراضي سوريا الحرة لا تنسوا المعتقلين.

أيها المعتقل.. لا تُطلق سراحنا.. إلى أن لا يبقى معتقل واحد في جحيم الأسد.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي