حذام زهور عدي
كان توفيق الحكيم عندما كتب “عودة الروح” في وضع أفضل من وضع السوريين اليوم، ولم تكن مصر في حالة أسوأ من حالة سوريا، مع النتائج الغامضة لتضحيات السوريين وما مر عليهم من كوارث وآلام، وإذا كانت مظاهرات 1919، المصرية قد أعادت الروح لتوفيق الحكيم وأعادت نشور الروح الوطنية المصرية، فإن مظاهرات إدلب وما حولها أعادت الحياة للشعب السوري كله ونفخت روح الصمود والإرادة والتصميم، وبجرأة ووضوح أعادت شعارات الثورة الأولى “الشعب السوري واحد.. لا بديل عن إسقاط النظام”.
جاءت هذه المظاهرات كعودة طائر الفينيق، كان المتابعون السوريون وغير السوريين من أصقاع الأرض المختلفة قد بدؤوا يكررون حكاية الإعلام الأسدي وحلفائه بانتصارهم على الإرهاب المزعوم، بل بدأ عدد من السياسيين السوريين يتلاوم، كلٌ منهم يلقي باللائمة على الآخر مقرين بموت الثورة، وكان الأمر يزداد سوءًا عندما تُعلن اجتماعات في طهران وأنقرة وموسكو وسوتشي وجنيف لبحث “المسألة السورية” دون أن يكون بينهم سوري واحد حتى لو كان ممن غرقت يداه بدماء السوريين أنفسهم.
جاءت هذه المظاهرات لترد عليهم جميعًا: ها نحن.. ما زلنا على قيد الحياة شبابًا وشيبًا نساء وأطفالًا، وبصوت طائر الفينيق رمز سوريا العظيمة، من الرماد نعود، لا أحد يستطيع إلغاءنا، نحن صوت الشعب السوري، ونحن ثورته، ننفخ في الوطنية السورية، ونعيد إليها الروح من جديد.
كل ما يقال عمن وراء المظاهرات ومن دفع إليها، وما يُبرَز من صور قصد شبيحتها، ذوو الأصول المختلفة، تشويه الحراك المنعش، هراء لا قيمة له، فقد كانت الحشود والأصوات أقوى من أن تُرتهن لأحدٍ، حتى لو كان ذا مصلحة مشتركة معها، فقد عانوا من مآسٍ وخاضوا تجارب تجعلهم أساتذة ثوار العالم وأصبحوا ممن لا خوف عليهم ولا حزن بل كلهم تصميم وأمل.
ولأنهم في منطقة محررة مارسوا حريتهم في التعبير عما يريدون، فهل وصلت رسائلهم للعناوين التي أرسلوها؟ وهل قرأها أصحاب تلك العناوين وفهموا محتواها؟
هل فهم بوتين ماذا يريد السوريون، وأن لا حماية لاحتلاله ولا استقرار طالما هو يرتكب الجرائم دون مبالاة بالضحايا ويصادر حقهم بالحياة الكريمة الحرة داخل وطنهم؟
وهل فهم الأمريكيون بأن في الكعكة السورية السم الزعاف لمن يريد تقاسمها، ولمن يتخيل أن أكلها سهل ومذاقها حلو كالعسل؟ وهل فهم الإيرانيون بأن حثالات التخلف والبربرية قد ودعتها بلاد الشام من فجر التاريخ وبأن أساطيرهم وخرافاتهم ليس لها سوق فيها؟
وهل فهمت الدول صغيرها وكبيرها بأن الشعب السوري ليس المكان المناسب لتصدير أزماتها، واللعب على دمائه؟
وهل فهم دي ميستورا الوسيط الأبدي الفاشل، أن الشعب السوري ليس قبائل الغجر الذين يحملون ما خف من أمتعتهم ويُقذفون في مجاهل البحار والفيافي، ثم تُعفش بيوتهم وتنتهب أراضيهم ثم يصمتون ويتقبلون ما حدث بالدبكات والرقصات الدموية؟
وهل فهمت شركات العالم وتجار دمائه، بأن لا إعادة إعمار ولا ربح واستثمارات إن لم يصل الشعب السوري إلى أبسط حقوقه محققًا الحياة التي تليق بعمقه الحضاري؟
وهل فهم النظام الأسدي بأن لا كيماويه ولا حلفاؤه الكبار والصغار ولا مرتزقتهم وأسلحتهم ذات الدمار الشامل وغير الشامل قادرة على إحراق طائر الفينيق وإعلان الاحتفالات بالنصر على رماده، وأن من استطاع أن يوقف معركة إدلب قادر في يوم ما أن يوقع الهزيمة به ويُسقطه؟
وهل فهم ساسة المعارضة بأن الخوف المعشش في قلوبهم، والانحراف البصري في عيونهم، وضعف الإيمان بإرادة الشعب، والاستسلام لمصالح المحتلين، وبث الإحباط واليأس في النفوس والقلوب، كل ذلك لا علاقة للسوريين به، وأن السوريين قد يصمتون عندما يجدون الصمت موقفًا ناطقًا ولكنهم لا يفقدون أصواتهم التي يزلزلون بها عروش الطغيان عندما يحين وقت الواقعة؟
وهل فهم الضفادع والشبيحة بأنهم مكشوفون، وأن محاولاتهم للتخفي بأثواب النصرة أو إثارتهم لنزاع بين الوطنية السورية “التي باعوها بأرخص الأثمان”، وبين حلفاء ذوي مصالح مشتركة آنيًا، لن تُجدي نفعًا مع ثوار أنضجتهم نيران الكوارث؟
وهل فهم من تبقى من السياسيين الشرفاء أن من فجر الثورة ما زال قادرًا على حمايتها؟ وأنهم في طريقهم لقيادة موحدة تُدرك الفارق بين التكتيك والاستراتيجية وتضع الخطط المناسبة للحظة المناسبة وبأن مهمة من تبقى من السياسيين دعمهم لا إلغاؤهم ولا الإمساك بدفة القيادة؟
تلك هي رسائل المتظاهرين داخليًا وخارجيًا، هي الرسائل نفسها التي أهملتها دول العالم منذ سبع سنوات وصمتت عن الجرائم جميعها التي أوقعها مجرمو العصر فيهم، مشاركة فيها تارة ومعارضة صوتيًا على حرفٍ تارة أخرى، فهل آن الأوان للاهتمام بقراءة تلك الرسائل جيدًا، ومراعاة محتواها؟ هل آن الأوان لقراءة لافتات كفرنبل التي كان السوريون يتلهفون لرؤية تميزها وجمال إخراجها، ولسماع هتافات الجسر وبنش وأكثر من 190 نقطة تظاهر هناك فقط؟
تحية لكل عجوز وطفل وشابة وشاب كتب تلك الرسائل بصوته ودمه وعذاباته، فقد أسمع أهل إدلب والشمال السوري صُم العالم وأروا عميانه ماذا يريد الشعب السوري، وأعادوا إلى الواجهة بالرغم من تجاهل من يستفيد من التجاهل، صورة إخوتهم في حمص وحماة وحلب ودمشق والجزيرة السورية ودير الزور والساحل والجبل وسهول حوران، في كل مكان سكن السوري به، أعادوا زمن بدء الثورة السورية.
أجل لقد نفض طائر الفينيق الرماد عنه، وحلَق بجناحيه متحديًا حرائق القرن وصفقاته، معيدًا الروح لشعب خُيل لأعدائه يومًا أنه احترق.