عنب بلدي – ضياء عودة
لم يُكتب مصير محافظة إدلب في القمة الثلاثية التي جمعت الزعماء الثلاثة، رجب طيب أردوغان وحسن وروحاني وفلاديمير بوتين، في طهران، بل ازدادت معادلتها تعقيدًا بعد خلاف تركي- روسي ظهر إلى العلن بشأن تطبيق وقف إطلاق نار في المحافظة، والذي من شأنه تجنيب أربعة ملايين مدني “حمام دم”، كما حصل في مناطق سورية أخرى.
موقف تركيا بدا حازمًا ومتمسكًا بالبقاء في المحافظة لمنع أي عمل عسكري، وربط أردوغان ملف المحافظة بالأمن القومي التركي وليس فقط بالحل السياسي في سوريا، لكن ذلك لم يرق للرئيس بوتين الذي حاول الظهور بموقف القوي القادر على فرض رؤيته العسكرية والسياسية، رافضًا إبرام أي هدنة مع “جبهة النصرة” (المنحلة في هيئة تحرير الشام)، ومؤكدًا على سلطة النظام على كامل الأراضي السورية.
الجانب الإيراني سار مع الطرفين، وبينما وافق حسن روحاني على ما ذكره أردوغان بشأن وقف إطلاق النار الشامل في إدلب، ذهب إلى فكرة بوتين بضرورة سيطرة النظام السوري على كامل الأراضي السورية، ومن بينها إدلب والمناطق الخاضعة لسيطرة القوات الكردية شرقي الفرات.
ولا يزال القصف الجوي من الطيران الروسي مستمرًا على ريفي إدلب وحماة، واستهدف في 7 من أيلول الحالي معسكرًا لـ “الجبهة الوطنية للتحرير” التي تدعهما تركيا، كخطوة ترجمت برسائل روسية تحاول موسكو إيصالها لأنقرة للإسراع بحسم ملف “جبهة النصرة” أو ترك الأمر لعمل عسكري من جانب قوات الأسد.
وتعول المعارضة اليوم على تركيا لتأمين إدلب، بعد الموقف الذي أبداه أردوغان بخصوص المحافظة، وتدور التساؤلات عن الأوراق التي تمسك بها، والتي من المفترض أن تجنبها أي عملية عسكرية، خاصةً بعد التلويح بفشل العملية السياسية عبر “أستانة” في حال التحرك عسكريًا.
12 نقطة مراقبة.. التعزيزات مستمرة
على طول شريط إدلب ثبت الجيش التركي على مدار الأشهر الماضية 12 نقطة مراقبة، بموجب اتفاق “تخفيف التوتر”، الذي وقع في “أستانة”، ورغم أنها لم تبعد “شبح” القصف اليومي على المدنيين والمقرات العسكرية للفصائل، لا تزال “عامل تطمين” بأن إدلب لن تكون كباقي المحافظات كدرعا مثالًا.
وحتى اليوم تستمر التعزيزات العسكرية من قبل الجيش التركي إلى النقاط، ولا تقتصر على العتاد والآليات، بل شملت مؤخرًا مخافر جاهزة مسبقة الصنع وكتلًا إسمنتية، بالإضافة إلى القوات الخاصة التركية التي وصلت إلى نقطة مورك، في تطور هو الأول من نوعه داخل إدلب.
ويرى القيادي في “الجيش الحر”، مصطفى سيجري، أن بقاء القوات التركية داخل إدلب، وإعلان الرفض المطلق لأي عمل عسكري، والتهديد بالانسحاب من اتفاق “أستانة” يعتبر من أهم الأوراق التي تمتلكها تركيا.
وإلى جانب ذلك، يقول سيجري لعنب بلدي إن رفع تركيا يدها عن الفصائل العسكرية، في حال حدث ذلك، يعتبر بمثابة فتح باب المعارك، وإمكانية تقدم “الجيش الحر” إلى مناطق جديدة مثل الساحل وحلب وحماة.
ويظهر المشهد على الأرض أن تركيا تؤسس عسكريًا في المحافظة على المدى البعيد، سواء من خلال الفصائل التي تدعمها تحت مسمى “الجبهة الوطنية للتحرير” أو القوات التي أدخلتها وثبتتها في النقاط المنتشرة.
وكانت صحيفة “صباح” التركية عرضت المقترح التركي في قمة طهران، ويضمن إبعاد 12 فصيلًا مسلحًا على رأسهم “تحرير الشام”، والبدء بتدريب فصائل معارضة “معتدلة” لإدارة إدلب عسكريًا، على أن يضمن الجيش التركي تأمين قاعدة حميميم الروسية في ريف اللاذقية من أي هجمات عسكرية.
وبعد ساعات من انتهاء القمة الثلاثية كتب المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، مقالة في صحيفة “ديلي صباح” قال فيها إن وجود الجنود الأتراك في إدلب هو الضمان الوحيد لمنع أي هجوم كبير، لأن المقاتلات النفاثة الروسية والقوات البرية للنظام لا تستطيع المجازفة بالهجوم في أثناء وجود الجنود الأتراك.
وأضاف، “نحن نعلم أنهم لا يهتمون بالمدنيين وقوات المعارضة المعتدلة، لكن أي هجوم على إدلب باسم القضاء على الجماعات الإرهابية من شأنه أن يقوض عملية أستانة”.
وركز كالن على نقطة مهمة هي أن “إدلب قنبلة موقوتة”، يمكن لتركيا إيقافها، ثم بدء عملية جديدة في سوريا إذا أصبح المجتمع الدولي جادًا بشأن الحرب السورية وأظهر أنه يهتم بالشعب السوري، بحسب تعبيره.
جاء في البيان الختامي لقمة طهران، تلتزم الدول الضامنة بسيادة واستقلال ووحدة وسلامة أراضي سوريا، وبمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وترفض كل محاولات خلق حقائق جديدة على الأرض بحجة مكافحة الإرهاب.
أعربت الدول عن تصميمها على الوقوف ضد أجندات الانفصال التي تهدف إلى تقويض سيادة سوريا وسلامة أراضيها، وكذلك الأمن القومي للدول المجاورة.
تناولت الدول الضامنة الوضع في منطقة خفض التصعيد بإدلب، وقررت معالجته بما يتماشى مع روح التعاون التي ميزت صيغة أستانة.
أكدت الدول عزمها مواصلة التعاون من أجل القضاء على تنظيم داعش وجبهة النصرة وجميع الأفراد والجماعات والمشروعات والهيئات الأخرى المرتبطة بالقاعدة.
دعم أوروبي
منذ بدء الحديث عن إدلب ومصيرها رفضت عدة دول أجنبية أي عمل عسكري في المحافظة، وأكدت على رؤية تركيا في ضرورة حماية المدنيين، ومنع أي موجات لجوء أخرى سواء إلى تركيا أو أوروبا.
وكانت كل من السويد، إيطاليا، بريطانيا، فرنسا، هولندا، بولندا، ألمانيا، بلجيكا أعلنت دعمها في الأيام الماضية لموقف تركيا في تجنيب إدلب أي عملية عسكرية قد تتسبب بكارثة إنسانية.
وجاء ذلك في بيان لمندوب السويد في الأمم المتحدة، أولوف سكوغ، نيابة عن الدول الثماني، أمام قاعة مجلس الأمن في نيويورك، وقال إن حياة أكثر من ثلاثة ملايين شخص في إدلب، بينهم مليون طفل، ستتعرض للخطر جراء أي عملية عسكرية، “الأمر الذي يدعو إلى القلق الشديد”.
وبحسب الخبير في الشأن التركي، فراس ببيلي، تحظى تركيا بدعم أوروبي لفكرتها بشأن إدلب، وهي ورقة أساسية تستند إليها في الوقت الحالي، إلى جانب النقاط العسكرية التي نشرتها على الأرض.
ويرى ببيلي، في حديث لعنب بلدي، أن قمة طهران لم يكن النجاح فيها كافيًا، فالروس والإيرانيون أكدوا على ضرورة بسط قوات الأسد سيطرتها على محافظة إدلب بالكامل، وعارض ذلك الموقف التركي الذي يسعى إلى حل سياسي في إدلب لكن دون تنازلات، لينتقل فيما بعد إلى التفاوض على مناطق شرق الفرات.
وبحسب الخبير، من الممكن أن تدعم تركيا عسكريًا فصائل المعارضة في حال تغيرت قواعد اللعبة.
وفي تغريدات له عقب انتهاء القمة، قال أردوغان إن “تركيا لن تقف موقف المتفرج ولن تشارك في مثل هذه اللعبة إذا غض العالم الطرف عن قتل عشرات الآلاف لدعم أجندة الحكومة السورية”.
وأضاف، “إذا غض العالم الطرف عن قتل عشرات الآلاف من الأبرياء لتعزيز مصالح النظام، لن نقف موقف المتفرج ولن نشارك في مثل هذه اللعبة”.
لعبة بخيارات
بالانتقال إلى العقبة الأساسية التي تعيق أي تقدم في ملف إدلب وهي “جبهة النصرة” تستمر المخابرات التركية بالتفاوض معها لحل نفسها والاندماج مع باقي الفصائل العسكرية، لإبعاد ذريعة “الإرهاب” عن المحافظة والتي تتمسك بها روسيا والنظام السوري.
وبحسب ما قال مصدر عسكري في “الجيش الحر” لعنب بلدي، تمارس تركيا ضغوطًا على “جبهة النصرة” لحل نفسها، أو نقلها باتجاه البادية كما عمل النظام في وقت سابق بخصوص مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وفي حال رفضت “تحرير الشام” الخروج إلى البادية ستلجأ تركيا إلى خطة أخرى، بحسب المصدر، وتتضمن القيام بعملية عسكرية محدودة من قبل الجيش التركي وقوات المعارضة، لكن بشكل متسارع ومحدود من أجل إبعاد “الإرهاب” بشكل كامل.
وبحسب المصدر، قدمت تركيا في الأيام الماضية وعودًا لروسيا بتأمين قاعدة حميميم من أي هجوم من قبل فصائل المعارضة، لكن الأخيرة أصرت على السيطرة على منطقتي جسر الشغور وسهل الغاب، وإبعاد أي وجود مسلح للفصائل مسافة 60 كيلومترًا.
ويتحدث المقترح التركي في قمة طهران عن خروج آمن للفصائل المصنفة “إرهابيًا” إلى منطقة عازلة تحت إشراف فصائل المعارضة، شرط أن يسلموا أسلحتهم لتحالف عسكري تدعمه أنقرة، في إشارة إلى “الجيش الوطني”.
كما سيُسمح للمقاتلين الأجانب بالعودة إلى بلدانهم إذا أرادوا ذلك، وسيتم استهداف المجموعات غير القانونية في المنطقة إذا قاومت خطط الإنقاذ والإجلاء، وبحسب المقترح ستتم إدارة إدلب من قبل تركيا والتي ستعمل على تدريب فصائل “الجيش الحر”.
وتضمن الخطة أيضًا أمن قاعدة حميميم العسكرية الروسية في محافظة اللاذقية وكذلك ثروات المعادن في المنطقة.
وأشار المصدر العسكري إلى أن هدف قوات الأسد في إدلب استعادة السيطرة على الطريق الدولي وإعادة النفوذ على مركز المحافظة، وقطع الصلة بين أرياف إدلب وأرياف المحافظات الأخرى.
وأوضح أن النظام يحاول التقدم بعملية محدودة من الخارج، وهو الأمر الذي أكدت عليه روسيا في تصريحات سابقة بالقول “علينا حفظ الأمن والأمان من الخارج وتركيا من الداخل”.
ويقود ما ذكر سابقًا إلى التمسك التركي بإدلب، وحصر الحل فيها عن طريقه كونها تتعلق بـ “الأمن القومي”، بحسب أردوغان، بعيدًا عن مركزها في الحل السياسي لسوريا.
ورأى المصدر أن حديث الرئيس التركي حول الأمن القومي يعني بشكل أساسي موضوع اللاجئين الذين سيدخلون إلى تركيا في حال بدء أي عمل عسكري، بالإضافة إلى هاجس تسلل عناصر “إرهابيين” إلى الداخل التركي، وبالتالي ستتعرض أنقرة لضغوط اقتصادية من جهة وأمنية من جهة أخرى.
روسيا تبحث عن خرق
على الجانب الآخر ورغم الأوراق التي تتمسك بها تركيا في إدلب، تحاول روسيا إحداث خرق في المحافظة، وتؤكد على ذلك بالتصريحات المتكررة عن الاستفزازت التي تقوم بها الفصائل باتجاه قاعدة حميميم، والتحضير لهجمات كيماوية في عدة مناطق كجسر الشغور، بحسب ما أعلنت وزارة الدفاع مؤخرًا.
وفي تصريح لبوتين عقب القمة قال “لقد تباحثنا في الإجراءات العملية لفرض الاستقرار على مراحل في منطقة خفض التوتر في إدلب، وتشمل خصوًصا إمكانية أن يوقع الراغبون في الحوار اتفاقًا”.
وأضاف ردًا على مقترح أردوغان بشأن الهدنة، أنها من الممكن أن تكون على مراحل ولجماعات مسلحة معينة، وهو الأمر الذي من الممكن أن تدخل عبره إلى مناطق محددة في المحافظة كمنطقة جسر الشغور وسهل الغاب، وبالتالي تؤمن قواعدها العسكرية في الساحل.
وتستمر قوات الأسد والميليشيات المساندة لها باستقدام التعزيزات العسكرية إلى محيط المحافظة، وتتركز بشكل أساسي في معسكر جورين “الاستراتيجي”، الذي شهد قصفًا من جانب فصائل المعارضة التي تدعمها تركيا، الأسبوع الماضي.
وعلى الجانب المقابل تعزز فصائل المعارضة جبهاتها، وكانت قد تلقت تعليمات من قبل الجيش التركي بضرورة تحصين جميع المواقع الفاصلة مع النظام استعدادًا لأي معركة، بحسب ما قال مصدر عسكري في وقت سابق لعنب بلدي.
ومن المقرر أن يجري المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، محادثات مع ممثلين عن تركيا وروسيا وإيران، الأسبوع المقبل، في جنيف حول الأزمة في إدلب.
وتبقى إدلب رهن الاستراتيجية التركية في الداخل السوري، ومدى قدرتها على مواجهة التعنت الروسي- الإيراني، سواء بالخيارات المطروحة سابقًا أو اللجوء إلى المحور الأمريكي، والذي كانت آخر تطوراته زيارة الممثل الأمريكي الخاص لسوريا، جيمس جيفري، لأنقرة وإجراء محادثات مع وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار.