سلسلة يكتبها منصور العمري
تحدثت في مادة الأسبوع الماضي عن “اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري” وعن تصريح المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، بمناسبة اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري، الذي قالت فيه، “الإخفاء القسري جريمة ضد الإنسانية ويقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. يجب ألا يمر ألم ومعاناة الضحايا وأسرهم ومجتمعهم دون أن يلحظهم أحد. العدالة والمساءلة مهمة”.
وهو ما يتعارض في الحالة السورية مع حقيقة أن جريمة الإخفاء القسري في سوريا لا تقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
ردّت المحكمة الجنائية الدولية في توضيح لعنب بلدي:
يجب توافر شروط لكي تكون للمحكمة الجنائية الدولية ولاية قضائية على جريمة ما. إن حكم المدعي العام يتعلق بأحدها، وهو نوع الجريمة، ولا يمكن قراءته بشكل منفصل عن الإطار القانوني للمحكمة.
يرجى ملاحظة أن المحكمة الجنائية الدولية تشعر بالقلق إزاء أي بلد يتم الإبلاغ فيه عن ارتكاب جرائم. مع ذلك، لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية التدخل إلا وفقًا للقواعد التي تحدد اختصاصاتها. سوريا ليست دولة طرفًا في المحكمة الجنائية الدولية. ما لم تقبل سوريا الاختصاص القضائي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن الطريقة الوحيدة التي يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تكون لها ولاية قضائية على الوضع ستكون من خلال إحالة من مجلس الأمن كما حدث في ليبيا ودارفور.
في الحقيقة هناك مساحة واسعة مليئة بالعواطف والآراء، تفصل السوريين عن فهم آلية عمل المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية وغيرها، لعدة أسباب، منها عدم توفر هذه الثقافة مسبقًا طوال عقود حكم عائلة الأسد، وإغلاق نظام مؤسسات الأسد أي باب أو مدخل للعمل الحقوقي والثقافة الحقوقية عمومًا، واستبدالها بالبروباغاندا الحزبية والأفكار الديكتاتورية المتعارضة مع حقوق الإنسان، فمثلًا لم تدخل هذه الثقافة في المناهج الدراسية أهم سبل صناعة الثقافة والوعي لدى الشعوب، بل تم استبدالها بـ “المنطلقات النظرية لحزب البعث” و”خطب الأب القائد” وغيرها، لصناعة جيل قطيعي، يؤمن بما يريد راعيه ويتصرف على شاكلته.
من أجل تحديد ما هو المطلوب من هذه المنظمات وتحميلها مسؤولياتها، يجب إدراك ماهيتها أولًا ووظائفها ومدى صلاحياتها.
يفيد هذا الفهم في توجيه السوريين ضمن المسار الصحيح للوصول إلى حقوقهم ومطالباتهم. فمثلًا لا يمكن مطالبة المحكمة الجنائية الدولية بالتدخل في الحالة السورية، ولكن يمكن مطالبتها على المستوى الأكاديمي والبحثي بعمل المزيد من أجل استقلاليتها ومحاولة النظر في الاتفاقيات الدولية المتعلقة بها، والتي مضى عليها عقود من الزمن وأصبحت غير مناسبة في وقتنا الحالي، أو مطالبة الجمعية العامة للأمم المتحدة بإحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية.
كما يحاول الحقوقيون والضحايا، منظمات وأفراد، فهم آليات عمل المجتمع الدولي بمنظماته لمحاسبة المرتكبين، يعمل المرتكبون حكومات وأفراد وداعمون، على فهم هذه القوانين أيضًا ولكن للتحايل عليها والتلاعب بها.
مثالًا على ذلك، حسب المادة الثانية من الفصل الأول من ميثاق الأمم المتحدة والنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية: “يمتنع أعضاء الهيئة جميعًا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة”.
أي أنه لا يجوز لأي دولة عضو في الأمم المتحدة الاعتداء عسكريًا على دولة أخرى، ولكن لتفادي هذا البند الأساسي غيرت بعض الدول استراتيجياتها في الاعتداء والتدخل ضد سلامة دولة أخرى واستقلالها السياسي. فمثلًا إيران لا تتدخل عسكريًا بشكل مباشر في العراق ولبنان واليمن، بل تبني ميليشيات من جنسية الدولة الضحية اعتمادًا على ولائها الديني، مثل “حزب الله” في لبنان وكثير من الميليشيات في العراق، و”الحوثيين” في اليمن، وتمولها بالمال والسلاح لتكون يدها الضاربة في تلك الدول بدلًا من التدخل العسكري المباشر التقليدي. بذلك تصبح هذه الميليشيات أداة إيران في هذه الدول للتدخل العسكري كما حدث حين اجتاح “حزب الله” بيروت عام 2008 لتغيير قرارات حكومية، والسيطرة السياسية كما يحدث أيضًا في العراق.
من خلال هذه الاستراتيجية، تتجاوز إيران انتهاك ميثاق الأمم المتحدة الحرفي الذي يدين التدخل المباشر التقليدي، ولكن لا يتحدث عن التدخل المباشر بآليات مبتكرة، كما فعلت روسيا حين أرسلت جنودًا روسيين بزي المتمردين في دونباس الأوكرانية، لتمويه التدخل العسكري المباشر، تحايلًا على القوانين الدولية.