حذام زهور عدي
يمتلئ الإعلام العالمي والمحلي بتصاريح مسؤولي الولايات المتحدة وروسيا ومن يدور في فلكهم حول الوضع السوري عامة ومعارك إدلب خاصة، ويتخاطف المتابعون والمهتمون تلك التصاريح، الواضحة العلنية تارة والمسربة تارة أخرى، وتضج مواقع التواصل الإلكتروني بها، وخاصة عندما ينحاز كل فريق لما يراه صحيحًا أو معقولًا، أو يأخذ الخبر عمن يعتقد أنه ذو مصداقية لقربه من صانعي الخبر، أو لأنه شخصية مؤثرة يستطيع التقاط الأخبار التي لا يقدر المواطن العادي الوصول إليها.
تنتشر الأخبار ولا تهتم إلا قلة بمعقوليتها أو بتناقضاتها أو باتجاهها المعاكس لكل التجارب السابقة أو بما يحصل على أرض الواقع.
والحقيقة التي يستطيع المحللون اليوم الاعتماد عليها من خلال التصريحات العلنية لوزراء الدفاع والخارجية لمحتلي سوريا، تعكس شدة في اللهجة والمواقف توحي بأن حروبًا بينهم قادمة على الأرض السورية كتصفية حسابات قبل أن ينتهي العرض ويسدل الستار على التراجيديا التي صنعوها بإتقان نادر.
بل يبدو هذه المرة -في الوقائع- أنهم معنيون بتحرك عسكري وأن غبار آلياته أصبح في مستوى المنظور، فقد امتلأ شرق المتوسط، وفق الرواية الروسية، بالسفن الحاملة لصواريخ هوك الأمريكية من أجل إسقاط النظام الأسدي، تصدت له السفن الروسية وصنعت جدارًا يُغلق منافذ البحر السورية كلها دفاعًا عن ذلك النظام (الذي أتاح لها فرصة المساومة لتحقيق مصالحها العالمية كلها)، ثم تتمادى بالتحدي وتعلن عن عدد البوارج والطائرات، ناصحة بشكل غير دبلوماسي الأسطول الأمريكي بعدم الاقتراب حتى لا يقع الصدام غير المرغوب به وتلمع شرارة الحرب العالمية الثالثة.
بينما تحركت القوى الإيرانية لتحمي النظام نفسه وتحاصر جنوب وشرق إدلب باعتبارها المعركة الأخيرة للجميع.
أما تركيا فلها حصتها أيضًا في المعركة إذ -وفق ما يُقال- هي الوحيدة المعنية بإنهاء الأمور سلميًا ومن خلال المفاوضات، لعلها تحصل على جائزة ترضية في نهاية الأمر.
لكن دراسة متأنية للأهداف الحقيقية لكل طرف من تلك الأطراف ولميزان القوى المحيط بإدلب يشير، بالرغم من الأصوات البطولية العالية، لمسلحيها من الثوار وغيرهم، أن كل ما يقال هي معارك كلامية يتفاوض كل طرف من خلالها من أجل أن يقتطع حصة أكبر يتحدى بها خصمه ويفرض عليه احترام مصالحه، وأن الجعجعة الروسية ليست أكثر من حرب نفسية موجهة أساسًا لمن في إدلب وللرأي العام الروسي نفسه لتبرير الجرائم الإنسانية التي ستحصل وإلقاء تهمة ارتكابها على الإرهاب الإدلبي وداعميه (الأمريكيين)!
ومع ذلك لن يُكابر أحد بعدم رؤية التعقيدات التي تحيط بمعركة إدلب، وأهمها الموضوع الإنساني الصارخ الذي يميزها عما جرى في الغوطة والجنوب السوري، والذي يتخوف العالم والاتحاد الأوروبي بخاصة من نتائجه، وبما أن لكلٍ من هذه الأطراف أوراقه التي يعرفها جميعهم جيدًا، فليس مستبعدًا أن تنتهي الأمور دون تدمير المدينة وريفها إن استمرت المعارك كلامية حتى الخامس عشر من شهر أيلول، حين يجتمع الفرقاء في جنيف حيث سيكون للولايات المتحدة دور فاعل فيه للمرة الأولى منذ أن بدأت مؤتمرات جنيف السورية، كما توحي أخبارها، وربما من أجل هذا تبدو روسيا وإيران، وبالطبع النظام الأسدي، في عجلة من أمرهم، يريدون حسمًا عسكريًا سريعًا يجعل معظم الأراضي السورية في قبضتهم وقد يهددون من خلالها الحصة الأمريكية منها. وربما هذا ما يُفسر تصريحات لافروف الأخيرة الشديدة الوقاحة حول معركة إدلب، ويفسر الإعلان الإيراني المقصود عن المعاهدة العسكرية الجديدة مع النظام الأسدي وتحدي وزير الدفاع الإيراني لمن يُطالب بخروج إيران من سوريا بزيارة قواته المتموضعة حول حلب، كما يُفسر بالمقابل شدة اللهجة الأمريكية، والمحاولات التركية لتهدئة الأمور ووعدها بحل المعضلة من غير كوارث تقذف بملايين جديدة من اللاجئين السوريين إلى الحدود التركية، وتسمح لحزب العمال الكردي بالتمدد أكثر وتهديد أمنهم القومي، كما يُقال.
وبالطبع فإن قعقعة السلاح لا بد منها في هذه المعارك الكلامية للإيحاء بجدية المواقف، فمن شبه المؤكد أن صدامًا عسكريًا روسيًا- أمريكيًا لن يحدث، لأنه ببساطة ليس من مصلحة أي منهما، وبالتأكيد فإن المساومات السرية على قدم وساق، فلقاءات ضباط المخابرات الأمريكية، التي اعترفوا أخيرًا بها، مع علي مملوك ليست من أجل الإرهاب والإرهابيين فقط! وما ارتفاع لهجة التصريحات وتتابعها وتسارعها إلا دلالة على وصول المساومات لعقدة يصعب إيجاد حل لها يُرضي الفرقاء جميعًا، وبالوقت نفسه فإن السلاح لن يُستعمل فيما بين أحد منهم، حتى إيران المهددة بوجودها العسكري السوري لن ترفع بندقية بوجه الاستكبار العالمي كما يُردد إعلامها، لكنهم جميعًا قد يخوضون معاركهم على الأرض السورية وعلى حساب الشعب السوري فيزيدون كثافة نهر دمائه ويبلغون المدى الأقصى بنوع الكوارث والتدمير.
فهل من قيادة لهذا الشعب المنكوب تستطيع الاستفادة من فُرَج خلافات المحتلين، ومساوماتهم لتقتنص موقفًا يُخفف من المآسي ويسمح برسم استراتيجية لتحرير سوريا وفرض صوتها بين هذا الضجيج الأممي الذي يطمسه، ويحول دون سماع أنينه وحشرجات الموت المحيطة به من كل ناحية وصوب.
إذا كان الأمل ضعيفًا أو شبه معدوم بالوجوه السياسية الحالية التي تدعي أو يدعي من وضعها بأنها تمثل الشعب السوري، في أن تفهم الألاعيب السياسية الحالية التي يلعبها مستعمرو سوريا بمهارة، فعلى ملامح القيادة الجديدة المرجوة، من الشباب الذين اكتووا بنيران السنوات السبع الماضية وتجاربها الحارقة، أن يتنبهوا لتناقضات المحتلين أو اختلافات مصالحهم مهما كانت بسيطة أو صغيرة فنقطة الماء المتواصلة تحفر جبلًا من صخر، وأن يبدؤوا بفهم الطرق والتكتيكات التي توصلهم لتحقيق الأهداف الكبرى لهذا الشعب، وألا يعتبروا معركة إدلب أو إنهاء وضعها هي نهاية الثورة السورية. من يدري ربما ستكون البداية الأفضل لها بعد أن تتخلص من شوائبها التي علقت بمسارها وكانت أحد الأسباب المهمة لمثل هذه النتائج، فربّ ضارة نافعة.
ما زال الأمل بسوريا الحرة الديمقراطية، وما زال الأمل بعودة الكرامة للشعب الذي أراد مَن بيده أمره إذلاله حتى النخاع، وما زالت الآمال تتلألأ في عيون أطفاله وشبابه وفتياته، أليست هذه هي سوريا العظيمة التي نسنحق كل ما بُذل ويُبذل وسيبذل من أجلها؟